التّوأم
} سامي معروف
سكبَ القهوة في فنجانِه، وأشعل لفافة وراحَ يقلّب في صَفحاتِ الموبايل.
فإذا برسالةٍ صَوتيّة ترنّ له:
«تعالَ اسهَر معَنا اللّيلة.. إنّها حَفلة وداع حَنان».
يا للمفاجأة!
صَدمة.. بل قنبلة!
هكذا.. لا بطاقة دعوة إلى الزّفاف ولا أيّ إشارَة إلى سهرة العُرس! فإذا بهذه الدَّعوة المتأخّرة، وبكلماتِها القليلة، حوَّلتْ بناءَه الجميلَ إلى رُكام والأمنيَات المزمنة إلى وَهم. إنّها سنواتٌ طويلة.. عُمر! وعيونُ الانتظار من وراءِ كُوى الشَّوق تبحثُ عن كلمة.. كلمةٍ رافلة بحلَّتِها المشرقة آتيةٍ من البَعيد.. من تلالِ السّنواتِ المُرَّة.. كلمة واحدَة فقط.. إنّها الكلِمَة! جواز مرور من بريَّة الوَحشة إلى مدينة الأحلام.
كانتِ الدّقائقُ كالسّنين، وكانتِ الخياراتُ أمامَ راجي قليلة.. كأنَّها دوَّامة.. كلّها تفضي إلى النّتيجة عينِها. واستسلم أخيرًا لقدَرِهِ.. إنّه «النَّصيب»، وعليه أن يخرجَ من «ساعةِ الطّلقِ» هذه حرًّا جديدًا.
لم يشَأ أن يكونَ أنيقًا في ذلكَ المساء. ما معنى الجمال الخارجيّ والدّاخل أشلاء؟ ما معنى الابتسامة وفي قلبِه نحيبٌ لا ينتهي؟ كانت حَنان روحَه.. وحياتُهُ الآنَ تلفظ أنفاسَها الأخيرَة. كانت حنان مغامرَة.. بل هي المقامرَة المرعبَة.. وكانتِ الخسارَةُ أيضًا كبيرَة مقدار اثنَتَي عشرَة سَنة.
خرجَ من منزله والظّلمة أطبقَت في ذلكَ الزَّمَن الضّائع في ليالي الخريف. أهي صدفة أن يتواعدَ خريفُ الحُبّ معَ خريف الطّبيعة؟ وفي عشرين دقيقة كانَ يركنُ سيّارتَه بعيدًا عن الزَّحمةِ عندَ البناء حيث تسكنُ حنان مع ذَويها. أشعلَ لفافة ونفثَ الدُّخانَ في الفضاء. أغمض عينَيه ثمَّ تنفّسَ عميقًا ومجَّ زفراتِه الحرَّى يريد أن يَتخلّص من حَيرتِه وتوتّرِه، تمامًا مثل جنديّ عند بداية المعركة. ولن تكون حَنان بدَورِها أقلَّ حَيرةً وتوتّرًاً.
كانَ القمرُ يخبّئ نصفه وراء الغيوم الرَّماديَّة الشفّافة، كأنّه يشاهدُ بحذر أحداثَ تلكَ اللّيلةِ القلقة، وقطرات ماءٍ لطيفة تنذر باقتراب المطر. ثمَّ راحَ يمشي ببطء على الرَّصيف تحت أشجار الكينا والزّنزلخت في تلك المحلّة الشَعبيَّة. وكانت الأسئلة المغمّسَة بالجّروح تناطحُ رأسَه.. أكان حُبًّا بينهما؟ أتُراها أحبَّته حقًّا؟ ما معنى كلّ هذا الصَّخب الذي صالَ وجالَ فوقَ مساحةِ تلكَ السّنين الطّويلة؟ ما حقيقة هذا الزَّواج الأحجيَة؟ كيف يفسّرُ الآنَ مضامين ساعات العذاب المؤرقة؟ وكيف يُفتي ويُقارنُ بين تلك النّظرات النّاعسَة من عَينَينِ سوداوَين واسعَتَين، والعلاماتِ المتباينة، والرّسائِلِ الرّماديَّة، ودلعاتِ القدِّ المُغويَة، والضِّحكاتِ المُكابرَة؟ من الآن وصاعدًا لن يستطيع أن يقرأَ ذكرياتِه تلك بمفرداتٍ قديمَة، لأنّه في هذه اللّيلة بالذّات ستَقتحم وجدانَه مصطلحاتٌ جديدة، ولن تفارقَه طالما الحَنين عرَّافُه الوَحيد. لقد صارح راجي حَنان بحبِّهِ مرَّات.. وكانت بالنّسبة إليه قدَرًا لا هروب منه.. وهي مرَّاتٍ بقيَت صامتة ذلكَ الصَّمت المثقل بالنّقائض. ومع سرعةِ وثَبَاتِ «فاكونات» الزّمَن في مَدى وَعيِهِ أدركَ أخيرًا بأنّه لا يقدرُ أن يتزوَّجَها ولا أن ينساها ولا أن يحبَّ سواها. تمامًا كإنسانٍ ممنوع عليه أن يَحيا وأن يُعدَمَ وأن ينتَحر، ولا حتى أن يتناولَ الدَّواء! إنّها تلكَ الحالة المعقّدَة المَشدودَة بينَ الوجودِ والعدَم.
عبَرَ إلى الجهةِ المقابلة ودخلَ إلى تلكَ العمارة.
حَفلة حَنان بحَدِّ ذاتِها قلَقٌ وجوديّ مُخيف! أهيَ كلماتُ التّذييل للعزوبيَّة أم المقدّمَة لرحلتِها الجَديدة المَجهولة؟ نجحَ راجي أوّلاً في السّيطرَة على دبلوماسيّةِ ملامِحِه، ومع كونِه شخصيّةً عفويَّة ليسَت بارعة في الفنِّ الرّيائيّ.. إلاّ انّه استطاعَ العَيشَ لساعات بين قلبٍ ميّت وقالبٍ نصف حَيّ. أن يموتَ المَرء وهو يبتسم قمَّة الرّياء.. أو الكبرياء! أو ربَّما هي الكرامَة والعنفوان. وكانتِ البروتوكولات ومفرداتُ المُناسبة تصدر عنه مدروسة موقَّعَة. وفي اللّحظة التي تَجمحُ فيها حَرَكة ما منه أو نظرَة أو كلمة كان لديه من قوَّةِ ألمِهِ الكثير ليَقمَعَها. هذا والمناسبة في هذا التَّوقيت بالذّات مليئة بالتحدّيات والفِخاخ.
أطلّت حَنان بفستانِها الأزرَق وشعرِها الكستنائيّ المتموّج تنثرُ على الحضورِ نسَماتٍ من سِحرِها وابتسامتِها، والعُيون تنهلُ من جمالِ الأميرةِ البَهيّ ولا تشبَع. وكانَ التحدّي الكبير عندما تصادمَت تلكَ الأعيُنُ الأربَعَة! الأعيُنُ التي تلاقَت كثيرًا في الماضي.. وتصارَحَتْ.. وتعابثَت.. وذرفَتْ دموعًا.. وتخاصمَتْ وتصالَحَتْ كثيرًا. ها هي الآنَ في عناقٍ وَداعِيٍّ أخير، وربَّما رَجاءٍ أخير! كانتِ الكلمات قليلة خرساء ضعيفة أمام الذي تبوحُ به العيون. أرادَ في نظراتِه أن يقولَ لها شيئًا، وهي بدَورِها كانت تقولُ له أشياء. كانَ يتوسَّلُ إليها وكانت ترجوه، ولم يخرج من الشّفاهِ الأربعَ غير كلماتٍ مشَرَّدَةٍ بائسَة:
«عقبالَك راجي.. شكرًا لحُضورِكَ».
«مبروك حَنان.. نشاالله بتتهنّوا».
ثمَّ تباعدا. والنّظرَاتُ من بعيد تتعانقُ وتتلاثَم وتتلاحم وتبكي. قالَ لنفسِه: «لقد انتهَيت.. حَنان تتزوَّجُ من سِواي.. لقد أحرقتُ جنَّتي بيَدَيّ.. أهيَ ساعة انطلاقي وحريَّتي أم ساعة موتي؟». وعندما تقاربا ثانية وسطَ الموسيقى وزحمَة الكلامِ والضَّحِك والأنخاب، قالَ لها:
«أنتِ أكثر جَمالاً من ذي قبل.. فستانُكِ الأزرَق رائع»، فقالت له:
«وأنت.. أنتَ أيضًا وَسيم». وصَمَتا.
ومضَت فقراتُ تلكَ الحفلة تباعًا، وعندَ دخولِ وفدِ العريس أميرِ المناسبَة، رفعَ الفتيان المتحمّسون العروسَ والعريسَ على الأكتاف، فعَلتِ الموسيقى ودار الهَرجُ والمَرج. تحادث راجي معَ والدَي العروس لدقائق ثمَّ خرَج. نَصٌّ ذاخر وخاتمَة هشَّة. ولكنَّه شعرَ فجأةً بحرّيَةٍ غريبة! كأنَّ هذا الموتَ الدّاخليَّ الصّادم أجرى استئصالاً لآلامِهِ الرَّهينة، فكانَ الشّفاءُ سريعًا غامضًا.. بل يكادُ يكون عجائبيًّا.
تزَوَّجت حَنان بعد ثلاثة أيّام. وفي اليومِ الثاني للزّفاف مساءً، كانَ راجي في المَقهى «يُنَفّخُ» سكائرَه، وموسيقى البلوز والكانتري في أرجاءِ المكان تبرّدُ خواطرَه اللاّهبَة. يرنّ الموبايل، وكانتِ المتكلّمَة مارغو صديقة حَنان، وكانت مرَوَّعَة:
«لقدِ انتَحَرَت حَنان يا راجي.. ألقَتْ بنفسِها من شرفة الفندق!»
بقيَ راجي صامتًا أخرسَ كأنّه «عمود مِلح». وتابعَتْ مارغو:
«فضيحَة يا راجي.. كانَ هناكَ جَنيْن في أحشاءِ حَنان عمرُه أربعَة أشهر»،
وبقيَ راجي صامتًا، وتابعَت مارغو:
«الجَميع يعرف أنّها كانتْ تنتظرُ منكَ كلمَة.. كلِمَة يا راجي.. كلمَة واحدة فقط».
أقفلَ راجي الخَطّ في وجهِ مارغو جامدًا كالصَّخر، وهو يعلمُ يقينًا أنّه ليسَ مصدرَ الجَنين، وقالَ لنفسِه:
«بل هناك توأم يا مارغو! هذا الجَنين والأمَل الذي ماتَ معَه».
* كاتب لبناني.