ضيق السياسة وفسحة الأمل
سعاده مصطفى أرشيد*
يستهجن المتابع للشأن الوطنيّ والسياسيّ من بعض ممن أدهشتهم عمليّة التطبيع العربية الأخيرة مع (إسرائيل)، والتي كان آخرها – حتى الساعة، التطبيع المغربي. فمن قرأ التاريخ وعرف كيف تشكّلت هذه الدول وكيف وصلت أسرها الحاكمة إلى حكمها، سيعرف حكماً أن لا بدّ لها من أن تصل إلى ما وصلت إليه، مع ضرورة الحذر من المفردات المضللة، فالتطبيع هي كلمة ملطّفة وقناع لما هو أكثر من ذلك، إنه للتحالف مع (إسرائيل) .
لم تكن علاقة العرش المغربي بيهود المغرب سراً، ولا بالحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة منذ ستة عقود، تلك العلاقة التي رسم خطوطها الحسن الثاني منذ كان ولياً لعهد أبيه، وقد تحدثت كتب ومذكرات عديدة صدرت عن السياسيين والأمنيين «الإسرائيليين» بالتفصيل المرعب عن ذلك، مما ورد فيها إعطاء ملك المغرب تسجيلات للموساد الإسرائيلي، بعد أن قامت مخابرات بزرع أجهزة تنصّت وتسجيل على جلسات القمة العربية التي عقدت في الرباط عام 1966 بما فيها الجلسات السريّة وذلك حسب رواية شلومو غازيت، تلك المعلومات التي كان لها دور رئيس في هزيمتنا أمام «إسرائيل» عام 1967، كما نظم المغرب ورعى اللقاءات التي دارت في الرباط بين موشي دايان والتهامي – رجل السادات للمهام السرية، تلك اللقاءات التي أفضت إلى تصالح مصر مع (إسرائيل) وخروجها من حمأة الصراع.
في جلسة المجلس الوطني الفلسطيني – دورته الثانية عشرة عام 1974 التي عقدت في القاهرة، أقرّ في ذلك المجلس البرنامج المرحلي (النقاط العشر)، ذلك البرنامج الذي مثل أولى الخطوات نحو الاعتراف بـ (إسرائيل) والسير في طريق التسوية معها، وتخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن الدور الذي يُفترض أنها أقيمت من أجله، ألا وهو تحرير فلسطين، اذ أصبحت مهمتها السير باتجاه إقامة دولة على أرض الضفة الغربية التي كانت تعتبر حتى حينه، أرضاً أردنيّة محتلة، وقطاع غزة الذي كان حتى عام 1967 تحت الإدارة المصرية، وبلسان سياسي، مثل ذلك البرنامج طلباً فلسطينياً للانتساب إلى النظام العربي الرسمي، الذي سرعان ما قبل الطلب في مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في الرباط بعيد جلسة المجلس الوطني المذكورة، حيث اعتبرت القمة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبالتالي صاحبة قرارها الوطني المستقل، كان ذلك باقتراح مقدّم وإصرار على إقرار الاقتراح من كلّ من الحسن الثاني وأنور السادات، وقد أثبتت وقائع ومجريات الأحداث لاحقاً، أنّ الهدف المضمر من ذلك الاقتراح، كان فكّ ارتباط المسألة الفلسطينية بمحيطها القومي ودوائرها المساندة من عالم عربي وإسلامي ومن حركات تحرّر عالمية، ومثل طلباً فلسطينياً جديداً للانتساب لعضوية النظام الدولي.
في عودة إلى الحاضر المبني على مقتضى ما سبق من ماضٍ، نرى أنّ السلوك السياسيّ العربيّ بمعظمه يسير باتجاه أنّ لكلّ كيان قطريّ من حقه أن يتخذ قراره القطري – الكياني المستقل، وعاد كلّ منهم لا يرى إلا مصلحة كيانه الصغير الضيّق، ومن ثم مصالح الحاكم أكان دكتاتوراً عسكرياً انقلابياً أم جاء بانتخابات شكلية، أم كان ملكاً أو أميراً يتوارث السلطة، وذلك على حساب المصالح والمسائل القوميّة والإقليميّة الكبرى، هكذا تمّ تجاوز المسألة الفلسطينية بالفعل، وإنْ تمّ الاستمرار بدعمها بالقول، وانتفت كقاسم مشترك في المنظومة الممثلة بجامعة الدول العربية أو في مجلس التعاون الخليجي، والتي كانت ترى في سابق عهدها – أو تدّعي – أنّ (إسرائيل) ليست إلا كياناً عنصرياً استيطانياً عدوانياً غاصباً، افترس فلسطين ويتحفز توسعياً لافتراس غيرها، الأمر الذي جعل من هذه النظرة في ماضي الزمن قاسماً مشتركاً.
كان لمسلسل التراجع الفلسطيني الذي خطا أولى خطواته المعلنة في البرنامج المرحليّ عام 1974، ثم مرّ بمراحل كان أخطرها توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وما تلاه وما زال يتلوه، دورٌ في إعطاء عجلة الانهزام والتطبيع دفعة ترافقت مع سوء نية قديمة عند دول مثل السعودية التي تريد المحافظة على العرش وتريد قيادة العالم العربي والإسلامي، متنافسة بذلك مع إيران وتركيا بعد أن استطاعت تحييد مصر وتوظيفها في خدمتها وضرب العراق والحرب على سورية واليمن، وهذا يحتاج إلى تطوير علاقاتها مع (إسرائيل) عسكرياً وأمنياً، على الخليج تريد الإمارات تعزيز قدراتها ومراكمة الأسلحة وعناصر القوة، منها شراء طائرات «أف 35» لحروب الآخرين، وتريد التحالف مع دولة قوية وقريبة جغرافياً وتملك قدرات نووية لحمايتها وإحداث توازن رعب مع الجار الإيراني، والإمارات بهذا تحتاج إلى استبدال العدو، فتصبح (إسرائيل) الحليف والصديق وإيران العدو. السودان تريد الإفلات من سيف الحصار والعقوبات، لذلك فهي تحتاج الرضا الأميركي الذي يشترط بدوره التطبيع مع (إسرائيل). ها هي قد حصلت منذ أيام على شهادة حسن السلوك الأميركية بشطبها من قوائم الدول الراعية للإرهاب. والمغرب ترى في الصحراء الغربية أرضاً وطنية، وتخوض من أجلها حرباً طويلة مع جبهة البوليساريو الممثلة للشعب الصحراوي، والمدعومة من الجزائر، وهي ترى في صحرائها أولوية تتقدّم على فلسطين، وبما أنّ الرئيس ترامب سار على نهج بلفور الانجليزي بمنح أوطان لا يملكها على شكل هدايا وأعطيات، فقد أعطى القدس والجولان لـ (إسرائيل) كما أعطى الصحراء للمغرب هدية خالصة من دون استشارة شعبها الذي يقاتل منذ أربعة عقود ونيّف لنيل استقلاله، والثمن في الحالة المغربية هو في الجهر الصريح بالتطبيع مع (إسرائيل). في كلّ عمليات التطبيع لا تدفع (إسرائيل) أي ثمن من جيبها، وإنما من جيوب ضحاياها. التطبيع كما سلف القول كلمة مضللة، وقناع يُخفي الوجه الحقيقي لعلاقة التحالف في مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد، لا بل ويصل إلى درجة التماهي الثقافي مع الحليف الجديد، فالإمارات وفقهاؤها ابتدعوا الدين الإبراهيميّ، وأقاموا دار عبادة إبراهيميّة مكوّنة من كنيس وكنيسة ومسجد، ثم صلاة إبراهيمية، صلاة مشتركة كما قيل تجمع اليهودي مع المسلم والمسيحي، وهي من ركعة واحدة وهز الرأس ثلاث مرات، المغرب بصدد تدريس مادة الثقافة اليهوديّة وتاريخ معاناة اليهود ضمن برامجه التعليمية الإلزامية، كذا تغيب المرتكزات الثقافية والروحية والتاريخية، كما غابت مسألة فلسطين كقاسم مشترك يجمع بين دول العالم العربي.
فيما لا يستطيع الفلسطيني الرسمي الاحتجاج ويحافظ على صمته إزاء ما يجري، فكما مارس وحدانيّة تمثيل فلسطين، وكما وقّع اتفاق أوسلو رافعاً شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل ومارس التنسيق الأمني والإلحاق – الشراكة في الاقتصاد، مبرّراً ذلك بضرورة الحفاظ على ما تبقى، ومبرّراً أيضاً بفشل الخيار العسكريّ والمقاوم، معلّلاً ذلك بسبب انهيار النظام الدولي ثم العربي وتداعي الاتحاد السوفياتيّ وما إلى ذلك من تبريرات، بناء على تلك التبريرات، يستطيع الآخرون استعارة هذا الخطاب واستيلاد مبررات مشابهة.
أما وقد أخذت عملية التطبيع – التحالف تتدحرج ككرة الثلج، الأمر الذي دفع بعض السياسيين الفلسطينيين لابتلاع ألسنتهم، بعد أن تبجّحوا طويلاً بأنّ سياساتهم قد عزلت (إسرائيل) والولايات المتحدة، وإذ بالمعزول يتمدّد ويتمطّى من الأطلسي غرباً إلى جاكرتا في الزمن القريب، مروراً بالقرن الأفريقي وإسلام أباد. الرئيس أبو مازن أخذ يبدي نشاطاً ملحوظاً أخرجه من أجواء كورونا وعزلتها، حيث قام برحلتين الأولى لعمان والقاهرة سبقت التطبيع المغربي والزيارة الثانية للدوحة عقب الإعلان عنه مباشرة، حاول الرئيس في زيارتيه استباق عمليات التطبيع، لتحقيق أي مكسب على هامش الاتفاقيات وملحقاتها بدلاً من أن يكون مجانياً، من هنا تمّت إعادة السفيرين إلى أبو ظبي والمنامة بعد أن أعلن عن استدعائهما للتشاور، ثم جاءت التعليمات الرئاسية الصارمة، للحكومة وسفرائها، ولمنظمة التحرير وقياديي حركة فتح، بالصمت وعدم مهاجمة المغرب.
نتوقع في القريب مواجهة مباشرة أو غير مباشرة بين الجزائر والمغرب في الصحراء، وقد كان الخطاب الجزائري الذي أعقب التطبيع مقارباً للخطاب الإيراني الذي أعقب التطبيع الإماراتي البحريني، فالجزائر ترى أنّ المغاربة قد استجلبوا العدو إلى جوارها، فيما يرى الإيراني أنّ الإمارات والبحرين قد استجلبوا العدو ذاته إلى الضفة المقابلة لهم من الخليج، ونتوقع مزيداً من الاحتكاك والتحرّش بإيران، ومحاولة دفعها إلى مواجهه مباشرة في الزمن المتبقي للرئيس الأميركي الراحل .
لما كان ما سبق توصيفاً لمشهد قبيح، فإنّ مجال التفاؤل لا زال موجوداً، والفرز بين الغث والسمين مرحلة لا بدّ من الوصول إليها، وها قد وصلنا إليها، فطرد حبة التفاح التالفة من الصندوق من شأنه أن يحافظ على سلامة الباقي، هذه الدول قد أعلنت عن حقيقتها، وأنها لم تكن إلا حصان طروادة معادياً داخل الصف المقاوم وفي تحليل ظاهرة زوال القاسم العربي المشترك لصالح القاسم المشترك الجديد بين كلّ دولة مطبّعة و(إسرائيل) بشكل ثنائي، بحيث تصبح هذه الأخيرة هي المشترك بين تلك الدول، ما يدعو للتفاؤل أنّ قاسماً مشتركاً لا بدّ أن يأخذ شكله ولبوسه في مقبلات الأيام، بين مَن يمسك بجمر الثوابت، ولا بأس ومن تضرّر من هذا التطبيع – التحالف، هذا القاسم المشترك لا بدّ له أن يجمع بين سورية وإيران وتركيا والجزائر ومعهم أطراف مقاومة فلسطينية، لبنانية، وعراقية ستجد أنّ ما يجمعها يفوق ما يفرّقها، الأمر الذي سينعكس على السلوك التركيّ تجاه سورية إيجاباً، والعقل السياسي السوري لا يعمل بالمنطق الثأري البسيط، بقدر ما يعمل في خدمة أهداف عليا، قد يكون ذلك من باب التمني، ولكن ذلك ممكن ومتاح، فتركيا ستعود إلى رشدها وتدرك أنها جزء من هذا الإقليم وهي التي تتعرّض للصفعات من حلفائها الأطلسيّين فلا بدّ أن يستنفد صبرها قريباً، خاصة أنها مهددة بسيف العقوبات وكان آخرها العقوبات على هيئة الدفاع التركيّة بموجب قانون مواجهة أعداء أميركا… وكما قال الشاعر الطغرائي:
أعلّل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة.