كيف تُدافِع فلسطين عن قضيّتها؟
} د.وفيق إبراهيم
ردود الفعل الفلسطينيّة على محاولات لإنهاء قضيتهم بشكل كامل لا تعادل أبداً الأخطار الاستراتيجية التي تستهدفها، خصوصاً أن التطبيع العربي مع الكيان المحتل أدرك حدود التحالف مواصلاً جذب المزيد من الدول إلى دائرته.
كان الفلسطينيون مثالاً نموذجياً في الدفاع عن بلادهم وقضيتهم بعد تشرّدهم في بلدان الجوار فلم يبخلوا بالدماء والأرواح والأملاك.
ولولا التواطؤ بين الدعم الغربي لـ»اسرائيل» والتخاذل العربي لما تمكّن اليهود من احتلالها.
لذلك فضل الفلسطينيون التشرد في البلدان المجاورة استناداً الى وعود عربية بأن عودتهم لن تطول.
هذا شكل نموذجاً لتخاذل أنظمة كانت وحتى الآن تشكل جزءاً من النفوذ الغربي بما يعنيه من تبنٍ لـ«إسرائيل» وحماية لها، فباتت هذه الأنظمة تطبق سياسة تواطؤ سرية مع العدو الإسرائيلي مقابل لغات إعلامية وخطابية تنادي بالتحرير والمقاومة.
لكن فلسطينيي الشتات في سورية ولبنان والأردن ومعهم الضفة الغربية وغزة يواصلون الايمان الفعلي بقضيتهم داعمين قطاع غزة في مقاومة مسلحة باتت تشكل نموذجاً في فنون القتال الشعبي بإمكانات ضئيلة، الى جانب انتفاضات الحجارة في الضفة الغربية.
هذا الوضع كان مدعوماً من جمهور عربيّ واسع يشمل كامل البلدان وله تأييدهم العالمي. وجاء الدعم الإيراني مع ظهور حزب الله كعناصر تاريخيّة زوّدت قضية فلسطين بمدد غير مسبوق، خصوصاً بعد انهيار مصر السادات وذهاب ياسر عرفات نحو التطبيع.
لقد انتظر الفلسطينيّون الوعود، لكنهم بوغتوا بحروب إسرائيلية في السبعينات و1982، لكنها لم تنجح في إنهاء صمودهم.
وهذا أدّى الى تشكيل ثلاثي سوري فلسطيني مع حزب الله بدعم إيراني نجح في حماية قضية فلسطين، خصوصاً في ضوء استمرار قطاع غزة في مجابهة بطوليّة، مع رفض الضفة أية مساومات شعبية على الرغم من التطبيع السياسي الذي استمرّ مع رئيس السلطة محمود عباس بتنسيق عميق، لكنه لم يحظ بتأييد شعبي.
لا بدّ من الاشارة الى ان انتصارات حزب الله على الاسرائيليين في 2000 و2006 شدت من عزم المقاومة الفلسطينية، وطغت على الانهزام العربي الكامل على مستوى الأنظمة، كما حشرت محمود عباس في زوايا تبريريّة لم يصدقها أحد محاولاً قلب هذه الصورة.
ما حدث هو أن هزيمة المشروع الأميركي في سورية والعراق واليمن وصمود إيران أثار رعب الأنظمة العربية الموالية للنفوذ الغربي، خصوصاً أن جائحة الكورونا أدت الى تراجع اقتصادي عالمي لم يوفر احداً مؤدياً الى تقهقر التفاعلات الاقتصادية بمعدل خمسين في المئة عند الاميركيين مثلاً، فكيف حال الآخرين؟
هذا ما كشف التحالف السري بين كثير من الدول العربية و»اسرائيل» وحوّله حلفاً سياسياً عسكرياً على اساس ان لا وجود لفلسطين.
لذلك فإن رهطاً كبيراً من دول مطبّعة يتحضر للحلف مع الكيان المحتل جاذباً دولاً عربية وإسلامية جديدة، تسير عادة على «هدي» السياسات السعودية التي ترعى حالياً عمليات التطبيع لإقرار الحلف المنشود مع الكيان «الاسرائيلي».
قد لا تثير هذه المعلومات دهشة المتابعين لأنها معروفة منذ مدى طويلة من الزمن، لكن ما يثير الغرابة والدهشة في آن معاً هو ردة الفعل الفلسطينية التي لا تتناسب مع حجم الأضرار الاستراتيجية التي لا تصيب القضية فقط بل تحاول إنهاءها وختم ملفها مرة واحدة.
فكيف يمكن بين ليلة وضحاها مشاهدة خليجيين يسوحون في فلسطين المحتلة متحاورين مع إسرائيليين في الشارع ومحاولين زيارة المسجد الأقصى برعاية «إسرائيلية»ظ
فلماذا هذا التواضع الفلسطيني في التعامل مع هذه المستجدات؟ وهل صدور بيانات من محمود عباس برفض التطبيع هو عمل يتناسب مع ما يجري؟
إن أدنى ما يمكن فعله حالياً هو عمل استراتيجيّ على خمسة مستويات لوقف هذا الانهيار المتصاعد:
اولاً: تأمين مزيد من الاندماج بين الضفة الغربية وقطاع غزة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، وهذا لم يبدأ حتى الآن على الرغم من اتجاه التطبيع مع «اسرائيل» الى حلف سياسي عسكري يعتبر فلسطين اختراعاً لا تاريخ له.
ثانياً: حلف فلسطين مع سورية يقوم على أساس الاعتراف بالخطأ الذي ارتكبته حركة حماس وفتح وبعض المنظمات الأخرى في استعداء سورية في أزمتها الأخيرة، ففلسطين جزء من سورية، ولم تتركها سورية مرة واحدة.
للإشارة فإن سورية في مرحلة الراحل حافظ الأسد كادت في 1973 أن تحرّر الجولان لولا الانسحاب المباغت للسادات من الحرب، وذهابه نحو التطبيع مع العدو الإسرائيلي في كامب ديفيد 1979.
ثالثاً: الانفتاح الفلسطيني على إيران التي لم تتخلَّ عن دعم غزة منذ تخلي مصر عن القضية الفلسطينية، وهذا يستتبع تعميقاً في العلاقة مع حزب الله، التنظيم العربيّ الوحيد الذي انتصر على «اسرائيل» مرتين ويعتبر قضية فلسطين هي قضية كامل فلسطين المحتلة.
رابعاً: توطيد الصلات مع فلسطينيي الشتات في الأردن وسورية ولبنان وأي مكان آخر، لتعميق القضية الثقافية لفلسطين حتى لا تنساها الأجيال نحو وطأة الضغوط الاقتصادية.
خامساً: نشر نظام اتصالات مكثف مع الدول التي لا تزال مؤيدة للقضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي والنظام العالمي.
فهناك مَن لا يزال مُصرّاً على حلّ الدولتين مقابل فئة أخرى تؤيد كامل القضية. بما يعني ضرورة استمرار العلاقات الدبلوماسية والشخصية والإعلامية مع البيئات الفلسطينية في الداخل والخارج مع إيلاء سورية دوراً مركزياً والارتباط بالعرب المؤيدين.
فهل هذا ممكن؟
حتى الآن لا يزال محمود عباس مراهناً على السياسات السعودية التي وعدته بدويلة له في الضفة، لكن الاستياء الفلسطيني منه يضعه أمام حلين: إما أن يرحل أو يذهب نحو قطاع غزة والمدى العربي لإعادة إنعاش قضية فلسطين.