«بين بيروت والقمر» لأحمد ناجي بختي… سؤال الهوية المستمر!
زياد كاج*
يجذبنا الروائي أحمد ناجي بختي بسهولة وخفّة إلى عالمه الخاص بأسلوب ساخر مخمليّ في روايته الأولى بعنوان «بين بيروت والقمر» الصادرة باللغة الإنكليزية عن دار «إنفلكس برس» ( 2020، 225 صفحة)، فندخل بيسر الى عالم الرواية التي تحكي عن بيروت ما بعد الحرب، وعن العائلة، والمدرسة، والمراهقة بعقل مراهق من أب مسلم وأم مسيحيّة يشقّ طريقه وسط الألغام الطائفية نحو وعي علماني إنساني للمدينة وناسها .
يقول الراوي في الفقرة الأولى من الفصل الأول إن أفضل طريقة لتعليم الأطفال السباحة هي برميهم الى المياه العميقة من دون توجيه مسبق. أما أبوه فقد رماهم، هو وشقيقته، في بركة من الكتب، بدلاً من الماء اختار الكتب»!
كان حلم الصبي – الراوي – أن يصبح رائد فضاء، لكن والده كان دائماً يجيب: «هل رأيت يوماً عربياً على سطح القمر؟» كان حلم آدم الذي كان يتسبب «بخناقة» بين الأب والأم كلما طرح حلمه على بساط البحث في غرفة الجلوس أمام جهاز التلفزيون حيث أدمن الأب متابعة برنامج «بسمات وطن» وقراءة جريدة «النهار» ومراجعة مقالاته المنشورة في الصفحة الثقافية.
بعفوية وصدق يدخلنا الدكتور بختي (خريج الجامعة الأميركية في بيروت 2011 وجامعة لانكاستر في المملكة المتحدة 2018 والمتخصص بالأدب المقارن والكتابة الإبداعيّة) عالم الوعي الطائفي في المدرسة بين الطلاب وجيل ما بعد الحرب. يعود الى البيت سائلاً أهله: «هل أنا مسلم أم مسيحي؟».
– «الاثنان معاً»، تجيب الأم.
– « جرّب البوذية»، يقول الأب ساخراً.
برع الكاتب (وهو أستاذ محاضر في الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية الأميركية) وتألّق في وصفه للجو العائلي الروتيني وتفاصيله المضحكة، وتحديداً في رسم صورة أبيه المثقف والمدمن على القراءة لدرجة أنه حوّل البيت الى مكتبة (كما فعل الجاحظ). قمّة الفكاهة والسخرية المقبولة من الحالة الثقافية السائدة في البيت حين ينتقل بختي ليصف للقارئ سيارتهم الأميركية المتآكلة «بارني» التي تحوّلت الى مكتبة وخزانة للكتب أيضاً. كان الناطور المصري ينقذ بعض الكتب ويجلبها للأب، فيسدي له النصيحة ورأسه مخفيّ خلف الجريدة: «توقف عن ضرب زوجتك…»
بسبب تسرّب مياه الأمطار الى داخل السيارة وتذمر الجيران من شكلها امام البناية، يصف الكاتب هذه الحالة: «بالأدب الرطب». ورغم موقفه من الأب، نكتشف لاحقاً أن الابن معجب بكتابات أبيه الأسبوعيّة وأنه الوريث الشرعيّ لسخرية الأب من الأوضاع ولشغفه الثقافي والأدبي.
الأب البيروتي العلماني هو نقطة مركزية في رواية «بين بيروت والقمر»؛ فهو الحامي والراعي من المشاكل في المدرسة والمجتمع. ويبرز ذكاء الأب في حماية العائلة خلال اشتباكات وحروب الشوارع واضطرار العائلة للاحتماء في الحمام الصغير. فيطرح عليهم أسئلة لتشتيت انتباههم عن أصوات القذائف، أو يطلب منهم مراجعة أرقام الحسابات المصرفية.
الجميل في أسلوب بختي أنه يكتب بلغة أجنبية متقنة ويتحدّث عن أمور ليقنع القارئ بوجهة نظر ابن 11 عاماً من دون اللجوء الى الخطاب أو الوعظ المباشر. وصّاف من الطراز الأول. لا يخجل بوصف ضيق مساحة بيتهم في الطابق السادس في رأس بيروت ولا ضيق حال العائلة التي راهنت منذ البداية على تعليم الأولاد في أفضل مدارس رأس بيروت.
« صار عنا كاتبان بالعيلة»، علقت أم آدم العطوفة والحنونة عندما نشر أول مقال له في «النهار». تصنع له سندويشات الجبنة اللذيذة وتتعاطف مع أحلامه الوردية وسط عالم حربي يتطلب القوة والقسوة في كثير من المناسبات.. خصوصاً في المواجهات مع الناظرة أو أهل تلميذ آخر اشتكوا من ابنها الوحيد.
يحمل الحب الأول آدم الى بيت زميلته في الرابية، حيث تستقبله وهي تسبح في بركة السباحة. يستمتع هو بمجالسة والدها السياسي الفاشل والفاحش الثراء. يعرف والده، فيسأله: «لماذا يستمرّ أبوك بالكتابة عن الأموات؟».
«سوف أسأله»، يجيب ببراءة مراهق بدأ يكتشف زيف عالم المجتمع المخملي.
في الرواية علاقة مميّزة للكاتب مع أبيه والأستاذ مالك (مدرس اللغة العربية) وصديقه باسل الدرزي، وأخته الصغيرة. الأستاذ مالك (المنتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي) ينقذه من ورطة حقيقيّة بسبب فتاة. وفي سياق السرد، نكتشف عداوة مبطنة بين الأب والأستاذ مالك الذي يسخر من مقالات الأب. في الفصول الأخيرة يسرد بختي «خطأ» أن زعيم الحزب القومي، أنطون سعادة، قد أعدم شنقاً!!! في حين أن التاريخ والحقيقة تؤكدان أنه أُعدِم رمياً بالرصاص .
«بين بيروت والقمر» رواية ممتعة، سلسلة، ساخرة وواقعية بامتياز. منسوجة بلغة يصعب أن يكتشف القارئ الأجنبي أن الكاتب لبناني عربي، أتقن تلك اللغة وأحبّها فكتب ببراعة عن مدينة يحبها وعن عائلة علمانية من الطبقة الوسطى تصارع مجتمعاً يحكم على الإنسان من خلال طائفته وانتمائه الديني. فالرواية تتوجه الى القارئ الأجنبي بهدف الإضاءة على بيروت ومجتمعها ومعاناة العائلات المختلطة في مجتمع طائفي متعصّب ومتخلف. إنه سؤال الهوية الذي لم يلقَ جواباً واضحاً وصريحاً حتى اليوم.
ملاحظة: الدكتور أحمد ناجي بختي هو مَن راجع وصحّح أول كتاب روائي أصدرته بعنوان «أولاد الناطور السابق» عن «دار نلسن» سنة 2008.
*روائي من لبنان