العقل والثقافة… صراعٌ أم انصياعٌ؟!
رنا محمد صادق
منذ مدة تراود ذهني ماهية الأسباب التي أوصلت المجتمعات البشرية إلى ما هي عليه اليوم، مجتمعات شبه متلاصقة ومتلاحمة في الشكل، مختلفة في التكوين لكنها تتصارع للوصول إلى القمة، والبقاء.
نعم، كانت وما تزال مفاهيم القوة والسيطرة على العقول هي الشغل الأبرز للقوى المتناحرة في العالم، لكن باستخدام أدوات جديدة فتارةً يكون الاقتصاد المحرّك الأول للقيادة، وتارة أخرى يسعون وراء مفاهيم ثقافيّة ما، وأحياناً كثيرة يكون العمل على التأثر والتأثير في مجتمع ما ناتج عن إنتاجات فكريّة، اجتماعية، نقدية، تربوية في شمولية الاقتصاد والثقافة والقطاعات الأخرى.
في بحثٍ دقيق عن كيفية صياغة الفكرة وتواردها وادماجها ضمن مجتمع ما ودخولها مرحلة التأثير والتنفيذ يبقى التحدّي الأكبر أمام العقل البشريّ في نجاح هذه العملية أم فشلها؟ ومَن هو المسيطر الأساسي في الأداء؛ العقل أم الإيجابية مفتاح القرار الصحيح الثقافة؟ وهل الثقافة هي التي تفكّك المفاهيم وتجزئها أم أنه العقل الذي يقود هذه الثقافة المتجددة نحو الهلاك!؟
مفاهيمٌ كثيرة كانت بعيدة التحقيق وكانت غير متيسرة الفهم، لكنها آلت إلى نقطة انطلاق وتنفيذ حينما تقبّلها الإنسان، كعملية التواصل عن بعد التي اجتاحت العالم، أو الإضاءة الكهربائية، أو حتى تلك الأمراض التي كانت في زمن ما خطيرة وقاتلة أصبحت فيروساً يُعالج من خلال التلقيح. وعلى ذكر ذلك أظن أن جائحة كورونا ستصبح فيروساً بسيطاً بعد أعوام. وبعامة في مدرك الأمور إن المنظور العقلي للحياة اليومية يقوم على أهمية تبسيط محتوى أي فكرة للانطلاق في التنفيذ، حتى تصبح سلوكاً بشرياً معاشاً.
ترتبط العلاقة بين الثقافة والعقل على عملية التأثير والتطبيق التي تظهر في سلوك جماعة ما، لكن يمكن الجزم أن هذه العلاقة ليست أحادية بل متقابلة، من ناحية التجديد والمعرفة والتأثر. مفهوم الثقافة يندرج في قوانين عدة، قانون التعبير، قانون التغيير، قانون الجذب والعلاقات الإنسانية وقانون التنفيذ والسلوك، هذه القوانين هي المرجع الأساس كي تتم عملية التأثير بشكل ناجح، مع العلم أن هذا المفهوم الذي يؤيده بعض المثقفين لا دليل على صحته اليوم، لأن لا يمكن دراسة ركائز الثقافة من دون العودة إلى عمل العقل في التنفيذ وما يؤثر به من ماضٍ، ومعتقدات دينية أخلاقية إنسانية وثقافية أيضاً.
هذا العقل كان يصعب عليه تخيّل الحياة اليوم، لم يكن قادراً على صياغة الكثير من الأمور، ولكن بالمزيد من الاختبار والتجربة تقبّل واجتاز مرحلة ما بمفاهيم ومعتقدات متجددة، لكل ما يدور في هذا الفلك المسكون، الأمر الذي يُدخل الزمن كعنصر جديد في هذه العملية التي تربط العقل والثقافة.
أنواع الثقافة
من الضروري عند دراسة عملية التبادل الفكريّ والسلوكيّ للعقل والثقافة لا بدّ من تحديد أنواع الثقافة التي يندرج ضمنها مفهوم التكامل المجتمعي لأي جماعة كانت، وأنواع الثقافة حددها كتاب «الثقافة وبناء المجتمعات» لخالد التومي وهي:
الثقافة العامة هي مجمل الآداب والفنون والعلوم في الإطار العام الخاص بها.
الثقافة الوطنية: هي كل ما يرتبط بحضارة الوطن ويميّزها عن غيرها من فن وأدب وعلوم وعادات وتقاليد.
الثقافة الأساسية هي مجموع الصفات الثقافية في زمان ومكان معينين.
الثقافة المهنية: هي الثقافة التي يهتم بها من هم على درجة عالية من التمدن أو التعليم.
الثقافة الشعبية: هي التي تميّز شعباً من غيره بامتثالها لعادات وتقاليد وأشكال تنظيمية خاصة بها.
الثقافة المضادة: هي التي تعبّر عن اتجاه ثقافي يحاول أن يحل محل الثقافة التقليدية المألوفة.
الثقافة المضادّة… بين الأمس واليوم
مصطلح الثقافة المضادة ليس بجديد بل برز في سبعينيات القرن العشرين بعلاقة مع الحركات الثقافية الأميركية الخارجة عن الثقافة السائدة كحركة الأدباء المعروفين بالجيل الضائع (Beat Generation) والهيپيز (Hippies) والپانكيين (Punk). وبصفة عامة تستعمل الثقافة المضادة في الحالات التالية: حركات منظمة وظاهرة وذات مدى زمني مهم (لا ينطبق التوصيف على النزوات الجماعية العابرة)، تجسد قيم مجموعة اجتماعيّة مهمّشة، حركات ثقافية فرعية مهاجمة لثقافة سائدة، أو حركات ثقافية على هامش قنوات الاتصال والنشر الثقافي (underground).
ويمكن تعريف الثقافة المضادة على أنها ثقافة فرعية تختلف قيمها ومعاييرها السلوكية اختلافاً كبيراً عن القيم الاجتماعية السائدة، وعادة ما تكون معارضة للأعراف الثقافية السائدة. تعبّر الحركة الثقافية المضادة عن روح وتطلعات مجموعة سكانية معينة خلال فترة زمنية محددة. عندما تصل القوى المعارضة إلى الكتلة الحرجة، يمكن للثقافة المضادة إشعال فتيل تغييرات ثقافية عميقة. من أبرز الأمثلة على الثقافات المضادة ما هو منتشر في أوروبا وأميركا.
العقل قوة وامتياز
الشمالية: الرومانسية (1790 1840)، البوهيمية (1850 1910)، الثقافة المضادة الأكثر انقساماً هي جيل بيت (1944 – 1964).. استحدث المصطلح لأول مرة بالإنكليزية في كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع الأميركي تيودور روستشاك، «صناعة الثقافة المضادة» سنة 1970.
أما اليوم فنرى نماذج كثيرة من الثقافة المضادة التي تنبذ معتقدات يمكن القول عنها إنها متجذرة ومتعمّقة في العقول لمجتمع ما، كاستحداث التطبيقات الاجتماعية والسوشيل ميديا التي تبرز معها مفاهيم جديدة كعادات التصرّف، والسلوك حسب نمط معين، في الشكل، في الوجه، في اللباس والأداء، كما أننا نعيش وسط ثقافة من نوع جديد في نسبة الجمال ومفهومه، بحيث باتت النساء يعتبرن أن الذقن الرفيعة مع الشفاه الممتلئة والخدود المقروصة هي ما تحدّد مدى جمال المرأة، الأمر الذي بات أشبه بغزوٍ ثقافي جديد يؤثر على عقول النساء، باتجاه مقابل لا بد من رؤية وضع المراهقين في ظل هذه التغيرات الثقافية المضادة التي تقوم على الاتصال الافتراضي والتواصل، من خلال الحسابات وتحقيق نسب مشاهدة عالية، كل هذه وغيرها تعد ثقافة مضادة، هل هو الغاء هوية مجتمع ما، أم عولمة الظواهر من خلال توحيد المنظور العقلي؟
امتيازٌ وقوة
«العقل البشري قوة من قوى النفس لا يُستهان بها»، بحسب ما ورد عن ابن سينا، فهذه القوة المتمكنة في النفس الإنسانية هي قوة قادرة على سلك اتجاهات عدّة في سبيل البقاء والصمود، وفي غياب العقل، تبتعد الأخلاق ومعايير الإنسانية والأخوة، وتسود معايير القوة والظلم. ومن يمارس الظلم لا يراه، ولنا صور عديدة من اللاأخلاقيات في حياة البشر التي لا تقتصر على القتل والحروب. لذلك فإن أهم معيار للتحكم بالعقل هو التمتع بالمنطق والحكمة في تحليل الأمور وطرح الأفكار وتنفيذها، والصبر في امتصاص السلوكيات الحديثة التي تحيط هذا العالم من كل اتجاه.
عمل العقل أمرٌ معقد وشائك فهو يرتبط بالتربية، والسلوك المكتسب، والبيئة الاجتماعية إضافةً إلى الطبع والمكتسبات الخارجية على مرّ أعوام لذلك فإن استخدامه اليوم لا يكفِ في مجتمع باتت العولمة عنوانه بل يجب تدريبه على الإدراك والتحليل والتنفيذ في اتجاه الخير والسعي البنّاء. لذا نطرح بعض المقترحات التي تساعد في تدريب العقل وتحسين عمله من خلال:
الامتياز الطبيعي للإنسان عن باقي المخلوفات يصبّ أولاً في العقل والتفكير، لذا فأول مرحلة للتفكير الجيد هو اعتبار العقل نقطة قوة أساسية في الحياة.
توسيع إطار التفكير في تحليل الأمور، من خلال المنطق العقلي وبذل مجهود لذلك.
عملية اتخاذ القرار، يجب أن تكون على مبدأ الخصوصية والشمولية، بحسب الظرف والزمن المناسبين للفرد.
قياس أهمية الأفكار الجديدة في الحياة، وعدم رفضها لا يعني نبذها.
العيش بانعزال عن البيئة والأشخاص أمرٌ صعب، لكن على الفرد اعتماد سلوك معين خاص به لا الاعتماد على التقليد والسعي للرضا المجتمعي على حساب ذاته.