المفقود والمولود وقرصنة وطن
} حيّان سليم حيدر*
من وحي «العاجل» في أخبار العالم.
تضُجّ أخبار الويلات الأميركية المتحدة (إلى حين.. أعني المتحدة) بواقعة قرصنة حسابات مؤسّسات الدولة، وأهمّها ما تعرّضت له الوزارات (1) والأخطر ما اتصل بسائر الوكالات (2) من ضمن ما قيل إنّه تعرّضت له 12 وكالة فدرالية بالإضافة إلى مصلحة الأمن السرّي لحماية الرئيس. حصل هذا كلّه بالتزامن مع قرصنة شركات خاصة ذات مهام أساسية مثال خدمات الإنترنت وشركة لوكهيد مارتن للصناعات العسكرية وغيرها من المؤسّسات الإستراتيجية. وقد اعتبر المعنيون الهجوم السيبراني الأخير خطيراً وكبيراً وغير مسبوق وليس له مثيل في السابق كونه اخترق البرمجيات والأمن الإلكتروني للحكومة وللشركات التي كانت قد حمّلت آخر تحديث لبرامج مكافحة القرصنة. هذا في الأخبار الرسمية.
وبالإبتعاد عن «ترِنْد» (Trend) التراشق بالتهم، هذه النَمَطية التي أصبحت لازمة رئاسية في عهد ترامب، الرئيس الراحل «ما يِرْحَلْشي»، تفيد المعلومات الأولية أن الـ «هاكرز» (Hackers) (المعروفين باسم حرامية سابقاً) قد تمكّنوا من الولوج (كلمة مستحدثة لوصف الدخول خِلْسَة، أيّ بِنيّة السرقة) إلى الأجهزة الحكومية وخرق برامجها والعبث بمضمون ما بات مصنّفاً أسرار دولة وقد شكلوا ويشكلون، وبوتيرة متصاعدة، خطراً كبيراً قد يصبح «وجوديّاً» على أركان الدولة وعلى سير إدارتها.
وزيادة في الاحتياط، أيّ كي لا يتركوا أيّ إمكانية حتى للتعقّب وكشف المستور والقبض على الجاني ومحاسبة المرتكب وفي النهاية لرأب الصدع وتصحيح الأمور بإعادة بناء أبسط مرتكزات الدولة، إذن زيادة في الإحتياط، فقد ولج القراصنة أيضاً إلى داخل (يا دِني ما يدخلك شرّ!) الشركة التي أعدّت برامج الحكومة، ومعها، استولوا على البرامج والأدوات والوسائل وما يتبعها، التي تحمي مستخدِم كلّ هذه الأمور من أعمال «التجسّس والسرقة والتخريب» والتي من شأنها أن تكشف «الخارق والمخروق والكامن بينهما»، أيّ بلغة أخرى وسائل مكافحة القرصنة.
ما شاء الله. عملٌ مُتْقَن حتى الكمال. عملٌ يرتقي إلى مَصاف ما يُسمّى في علوم الغرب وفنونه: State of the Art Job أيّ «الكمال في الفنّ» (ليست ترجمة حرفية طبعاً).
إذن، فهذه «المجموعة» قرصنت الأدوات التي تَحول، إقرأ جيّداً، تَحول دون القرصنة.
يذكّرني هذا العمل المُتْقَن بِبَلَد تقصّدت منظومته الحاكمة (المسمّاة سابقاً مؤسّسات دولة) الإنتقال به من بلد «مُرَوْكب» إلى بلد «مُكَرْبجٍ» (وهذا عنوان مقالة منفصلة قيد الإنهاء)، منظومة أتقنت السطو على كلّ ما ومَن يتنفّس ويمشي ويطير ويثبت في الأرض أو يلوح في الأفق. منظومة (كلمة غير موفّقة لا تنطبق على الموصوف) شَرْعَنت إلغاء الدستور ثمّ قَوْنَنت مخالفة القانون فساوَت بين المفقود والمولود والمعبود الذي إبتدعته. وزيادة في الإحتياط، أيّ كي لا يُمكن إصلاح أيّ أمر بأيّ وسيلة من الوسائل الدستورية، «ولجت» إلى دواخل إدارة الحكم فحوّلته من صراع على تفسير الميثاقية إلى تصارع بل تضارب على صلاحيات المناصب/الطوائف حتى أحدثت الشلل التام في العمل العام والموت غير الرحيم في الحياة… حتى النهاية. بلدٌ، أحرفه الأولى «لبنان الكبير»، كبير بإرتكابات أهله. حكّام، وفي اليوم العالمي للغة العربية، وكما سبق لهم وفسّروا معنى الحكم «الرشيد»، فهم يفسّرون أصول اللغة العربية على هواهم، فينحون بالنحوِ على مآربهم ويتصرّفون بالصرفِ على منافعهم حتى لا يعود للغة أيّ أصل ولا أصول فلا نذكر منها إلّا «الفصل»… اللي عملوه فينا!
لا ليست صحيحة النظرية الخلدونية الهيغِلية الماركسية القائلة بأنّ التاريخ يكرّر نفسه بمهزلة في المرة الثانية، فهذا لا ينطبق على «لبناننا الكبير» حيث الشبكة الحاكمة تقوم بعملها أول مرة مستخدمة مَمْحاة وفي المرة الثانية شاهرةً مَبْراة.
مع الأولى، المَمْحاة، تمحي كلّ أثر جيّد وطيّب ونافع، كلّ عمل صالح، كلّ مرتكزات الدولة، من دستور وحكم القانون والتزام مبادىء المسؤولية الوطنية بما هي سيادة وتداول سلطة ومُساءلة ومُحاسبة إلى آخر المنظومة الأخلاقية ومن ثمّ إلى المصفوفات الإدارية.
وبواسطة الثانية، المَبْراة (البرّاية سابقاً)، تبري بها الرصاص الذي تطلقه على ذاكرة لبنان الجميل، لبنان الذي كان، مثال «لبنان سويسرا الشرق»، ال»يا قطعة من السما»، و«الحبّ لبنان»(3)، «لبنان الرسالة»، لبنان حَسَد الحاسدين، إلى آخر قوافي الشعر وأنغام الحبّ وسائر فنون الإبداع في التعبير مثال «أقوال نسمة»(4).
وإذا كانت الويلات الأميركية قد صرّحت أنها ما زالت لا تعرف مصدر العلّة ولا طبيعتها وأنّها باشرت بمعالجة محنتها والأمر سيستغرق شهوراً وربما سنين، فالمتحكمون برقاب «لبنان الكبير» يعرفون تماماً مصدر وبائه، بل إخترعوه في مختبراتهم، ويعرفون طبيعته ولن يسمحوا لأحد بمعالجته… أبداً!
* تائهٌ من دون حمايات في بلد قراصنة
(1) الخزانة والخارجية والدفاع والطاقة والصحة ممّا عُرِف حتى الساعة.
(2) مثال الإحتياطي الفدرالي ووكالتي الأمن القومي وبرنامج الفضاء وشبكات إدارة الترسانة النووية الأميركية.
(3) «كنا، إذا قيل مَنْ لبنان، يُطربنا تجاوب في الذرى: الحبُّ لبنان، واليوم لبنان – ويل للأولى خفروا – كأنه من حياض البغض ريان!..»
سليم حيدر – ديوان «لبنان» – قصيدة «المحنة الكبرى» ، 1975 – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016.
(4) راجع «أقوال نسمة» لـ «المطرب» الصحافي طلال سلمان.