بين اتفاقيات الاعتراف بالكيان والقلق الصهيوني من الحرب المقبلة… وجهان للصورة
} حسن حردان
الصورة التي تشاع ويجري الترويج لها، هذه الأيام، لجعلها تحتلّ العقول والأذهان، هي صورة النجاح الأميركي الصهيوني في عقد اتفاقيات الصلح والاعتراف مع كيان العدو «الإسرائيلي» من قبل العديد من الحكومات العربية، بحيث يُراد أن يسود انطباع لدى الرأي العام بأنّ الكيان الصهيوني نجح في استرداد زمام المبادرة واختراق الواقع العربي والقفز فوق القضية الأمّ، قضية فلسطين، بانياً العلاقات ومكرّساً وجوده غير الطبيعي على حساب الوجود العربي في فلسطين المحتلة.. وبالتالي علينا أن نحبط ونيأس ونستسلم لمشيئة العدو ونرفع الراية البيضاء…!
طبعاً لا يجب بأيّ شكل التقليل من خطورة هذا الإنجاز للعدو الصهيوني الذي يتمّ بدعم أميركي، لأنّ الأنظمة التي وقعت اتفاقيات الصلح والاعتراف مع الكيان الصهيوني، ما كانت لتقدم على ذلك لولا…
أولاً، الضغط الأميركي الاستثنائي على الحكومات العربية التابعة لواشنطن، أو الخاضعة للحصار وموضوعة على لائحة الإرهاب الأميركية، مثل السودان..
ثانياً، حالة الفوضى الشاملة التي نشرتها الولايات المتحدة في المنطقة في سياق حربها الناعمة، والتي كانت وراء إشعال الربيع العربي، بعد ان هيّأت له الظروف الداخلية، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ومعيشياً إلخ… مما أضعف العرب وزاد من حالة انقسامهم وضعفهم.
ثالثاً، الحروب الإرهابية التي شنتها الولايات المتحدة ضدّ سورية والعراق ولبنان وليبيا وغيرها من الدول، بوساطة تتظيمات، ألبست ثوب الإسلام المزيّف، وجرى تصنيعها من قبل الاستخبارات الأميركية بهدف تفتيت الدول العربية المستقلة، لا سيما سورية، والجزائر، والاستيلاء والسيطرة عليها والتحكم بها وبمقدراتها وثرواتها، وقد أدت هذه الحروب الإرهابية، الى جانب الحرب على اليمن، الى إشغال العرب، حكومات وجماهير، في هذه الحروب بعيداً عن القضية الأمّ، قضية فلسطين.. وبالتالي تحوّلت جهود وقدرات دول وقوى المقاومة باتجاه مواجهة هذه الحروب الإرهابية والأمنية والاقتصادية، بدلاً من أن تكون موجهة فقط نحو العدو الصهيوني.. بينما تحولت جامعة الدول العربية إلى منصة لتنفيذ المخطط الأميركي الإرهابي لإعادة رسم خارطة الوطن العربي بما يحقق إخضاع العرب بالكامل للهيمنة الأميركية.
لكن من يدقق في الصورة الكاملة في المنطقة، يرى انه في مقابل هذا الجزء السلبي من الصورة، هناك أيضاً وجه إيجابي من هذه الصورة، لا يجب إغفاله أبداً، بل يجب الإضاءة عليه، لأنه يُراد للرأي العام العربي والإسلامي عدم رؤيته ومحوه من ذاكرته، والسقوط في فخ اليأس والإحباط والهزيمة من جديد، فهذا الوجه الإيجابي من الصورة يكشف للناس حجم المأزق الوجودي لكيان العدو الصهيوني، نتيجة انتصارات تحالف قوى المقاومة على الحروب الإرهابية في سورية والعراق ولبنان، ونجاح إيران الثورة في إحباط أهداف الحرب الناعمة الأميركية ضدها، وتنامي واتساع جبهة المقاومة في المنطقة، لا سيما بعد انتصارات المقاومة اليمنية في مواجهة الحرب الأميركية السعودية، وتنامي قوة ونفوذ فصائل المقاومة العراقية اثر إلحاقها الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي، وإسقاط أهدافه الأميركية، وازياد قدرات المقاومة في لبنان كمّاً ونوعاً، مما جعل كيان الاحتلال الصهيوني محاصراً ببيئة جديدة للمقاومة من اليمن إلى لبنان مروراً بقطاع غزة وسورية والعراق، وصولاً إلى إيران، ولجم وردع القوة الصهيونية، وجعلها في مأزق متزايد ناتج من عجزها على خوض الحرب والانتصار فيها، الأمر الذي غيّر موازين القوى في المنطقة لمصلحة مشروع المقاومة والتحرّر في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني الذي بات، بفعل ذلك، يعاني من التراجع والانحسار…
ليس أدلّ على هذا التراجع والانحسار من مؤشرين «إسرائيليّين» مهمّين:
المؤشر الأول، دراسة أعدّها معهد ابحاث الأمن القومي «الإسرائيلي» أظهرت «القلق من الحرب المقبلة، وحجم مخاطرها المدمّرة» على الجبهة الداخلية للكيان الصهيوني، خصوصا أنّ الدراسة حذرت من أنه في الحرب المقبلة «ستُهاجم الجبهة الداخلية بآلاف الصواريخ والمقذوفات الصاروخية، من بينها عشرات الصواريخ الدقيقة، فيما الداخل «الإسرائيلي» لا يزال غير جاهز لمثل هذا التحدي»…
وحسب الدراسة، انّ الحرب المقبلة ستحصل مقابل محور «إيران وحلفائها»، على ضوء تبلور المحور، و»نشوء تواصل بَرّي من طهران إلى بيروت، يتضمّن بناء قدرات متنوّعة لمهاجمة «إسرائيل» بنطاق واسع من الصواريخ والقاذفات الصاروخية والطائرات المسيرة الهجومية»، و»قيام فصائل من مقاتلي حرب العصابات بالتسلل إلى إسرائيل للسيطرة على مستوطنات ومواقع حيوية بالقرب من الحدود مع لبنان والجولان المحتلّ».
كما استنتج معدّو الدراسة بأنّ «الحرب المقبلة ستكون متعددة الساحات: لبنان، سورية، غرب العراق، مع احتمالية انضمام حماس والجهاد الإسلامي من قطاع غزة».. وان «الحرب المقبلة ستكون مدمّرة وقاسية، ويبدو أن أياً من الأطراف غير معني باندلاعها» حسبما قالت الباحثة أورنا مزراحي في «معهد أبحاث الأمن القومي».
الأمر الثاني، المناورات التي أجراها مؤخراً جيش الاحتلال في شمال فلسطين المحتلة، والتي تميّزت بطابعها الدفاعي لمواجهة هجوم المقاومة وكيفية استعادة المناطق التي ستسيطر عليها في شمال فلسطين، مما يؤكد بأنّ القيادة العسكرية الصهيونية تتصرف على قاعدة أنه في الحرب المقبلة سيكون الجيش الإسرائيلي في حالة دفاع، وأنّ المقاومة هي من سيكون في حالة هجوم لتحرير الأراضي المحتلة.
إلى ماذا يؤشر ذلك؟
ألا يؤشر إلى تحوّل في ميزان القوى العسكري لمصلحة قوى المقاومة، وإلى أنّ جيش الاحتلال لم يعد يملك زمام المبادرة، وأنّ المقاومة أصبحت من القوة بحيث أنّ الجيش الذي كان يوصف بأنه قوة لا تقهر، بات يهاب ويخشى المقاومة، التي حطمت أسطورته، ويحسب لها ألف حساب..
من هنا يمكن أن نستخلص بأنّ الهجوم «الإسرائيلي» الأميركي باتجاه توقيع الاتفاقيات مع بعض الحكومات العربية، غايته التغطية على المأزق الوجودي للكيان الصهيوني، بتحقيق «إنجازات» تطبيعية مع حكومات أصلاً تقيم معه علاقات من تحت الطاولة، وليست منخرطة في الصراع، والاستثناء فيها هو السودان الذي وضع، أميركياً منذ سنوات، تحت الضغط والحصار، وأدرج على لائحة الإرهاب الأميركية، وتمّ إنهاكه بالحروب والصراعات والأزمات الداخلية، في ظلّ حكومة لم تكن بمستوى التحدي..
لكن هذه «الإنجازات الإسرائيلية»، لا تلغي ولا تخرج الكيان الصهيوني، من مأزقه الوجودي النابع من عاملين:
العامل الأول، فشل العدو في إخضاع الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه، وازدياد قلق قادة العدو من العامل الديمغرافي، الذي يعمل لمصلحة شعبنا في فلسطين من جهة، وتنامي قوة وقدرات المقاومة في قطاع غزة ونجاحها في فرض معادلة الردع في مواجهاته من جهة ثانية.
العامل الثاني، تراجع وتآكل قدرة الردع الصهيونية في مواجهة تحالف المقاومة من ناحية، وفشل الحروب الإرهابية بالوكالة في إضعاف جبهة المقاومة في المنطقة، وازدياد قدراتها وقوتها وخبرتها القتالية في مواجهة قوات الاحتلال الصهيونية والأميركية على السواء من ناحية ثانية.. ما يعني انّ الكيان الصهيوني أصبح فعلياً في مأزق وجودي، فاقم منه أنّ القوة الأميركية التي حضرت إلى المنطقة لم تنجح في إخراج الكيان المعادي المصطنع، من هذا المأزق، بعد أن فشلت في إسقاط سورية، في حين انّ محاولة تعويم مشروع الهيمنة الأميركية في العراق أخفق بفعل انتصارات قوى المقاومة على داعش.
هذا لا يعني أنّ خطر الكيان الصهيوني والاستعمار الأميركي قد زال، بل يعني أننا دخلنا في مرحلة جديدة من الصراع معه، أصبح فيها تحالف دول وقوى المقاومة في وضع أقوى، مما كان عليه، في المواجهة، وسيكون قادراً، بعد تحقيق الانتصار الناجز على ما تبقى من قوى إرهاب في سورية وإخراج قوات الاحتلال الأميركي والتركي من الأرض العربية في سورية والعراق، سيكون قادراً على العودة إلى تركيز جهوده وقدراته على جبهة المواجهة مع الاحتلال الصهيوني ومدّ المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة وقطاع غزة بكلّ أشكال الدعم لمواصلة تصعيد حرب المقاومة المسلحة والشعبية، القادرة، وحدها، على استنزاف العدو وادخاله في مسار جديد من التراجع والانحسار عن أرض فلسطين المحتلة..