عام على رحيل أمّي… وقبرها يصنع المرايا!
} جهاد أيوب
رغم انبطاح سنة على رحيل أمي المناضلة وجيهة حوماني لا زلتُ أسمعُ ضحكتها، وهمسات أنفاسِها، وإشراقات خدودها الوردية …
رغم فواحش الأيام التي تعصف بنا بعد الوداع الأخير لأمي لا زالت نظراتها تلاحقني، وتراقب خطواتي، والساعة التي تجمّد فيها الزمن إلى حين لحظة وصول ملك الموت ناطقة على حائط يرتجف من هول التسليم، ومقعدها حيث كانت تصلّي وتشاهد التلفاز، وتراقب وتبوح لا زالت تجلس عليه، كلما جالت نظراتنا إليه، نجدها حاضرة من دون صوت مع أن صوتها يلاحقنا، ومزروعاً في مسامعنا كأنه نخلة لم نكن نعرف كيف زرعتها!
ورغم تعري أفراحنا التي كانت تنثرها علينا أربكت تلك الأفراح، وفاح منها بخور زيارة القبور!
ورغم تغيّر لون أيامنا وملابسنا وضحكاتنا وأبصارنا وكل ما يُحيط بنا منذ رحيل الغالية الخياطة أصبحتُ أشكك اليوم في معنى الموت، وأسأل إذا كان سرمدياً أو لعبة غميضة؟!
أمي الخياطة التي صنعت الذوق والأناقة في زمن الفلاحين، وشاركت في ري تراب الحقول المزركشة بخيط من الجمال لترسم به مع تعب الفلاحات شراويل غيّرتها والدتي إلى فساتين طويلة ومفتوحة وفاتنة، وتنانير واسعة وضيقة بألوان فرحة خانت في حينها تلك الألوان الكئيبة والحزينة، والمنهكة من صمت النظرات لصالح الفرح…
أمي التي هربت ذات فجر من المدينة إلى ريف ينهض مع ولادة الفراشات كانت حرة القرار، وحلوة الكلام، وعبق كل العطور الجميلة، وفرس الأمسيات الرشيقة، وغصن الرياحين الحميدة، وفجأة وجدت كل عمرها الصغير في بئر الحرمان الذي فرضه غياب شباب الزوج، حينها تراكمت من حولها الهموم، وتخلّت عن براءة الفتاة التي اعتادت مشاهدتها في الأفلام العربيّة وبأحاديث رجال دين أمنت بهم!
سنة على رحيل سيدة الدعاء والرحمة حيث تبدّلت فيها أيامنا، واختلفت بصمات أعمارنا، وزارتنا صفعات الشيخوخة برفقة تجاعيد وجوهنا، وتغيّرت أصوات أحلامنا، وطريقة تعاملنا مع أمور الحياة، ومع انكسار سنبلة القمح، وانقطاع وتر الدعاء!
سنة على الغياب عادت فيها فصول الينابيع من دونها، وتراكمت فيها ولادات الطيور إلا أن رحيل ست الحبايب كسر بداخلنا ما لا يوصف، لجم الروح، وقبض على النفس الهائمة، وحاول أن يعيد ترتيب المفردات الحزينة، وحدد مساحة أوراق الرجاء حتى نكتبها بدموع الانتظار…
رغم كل هذا لا تزال الكلمات تسير مع هزيمة البوح كلما أردنا الوقوف للحديث عن امرأة انتصرت على الصبر، وعلى أوجاع العمر، وعلى ذئاب الشباب من اقرباء ومارة، وعلى مر الحياة…
امرأة اختلط عمرها المراهق بمسؤولية ترتيب أعمار غيرها، فكانت صبية تجامل الوقار، غنوجة تغازل الكبار، وصغيرة ترتكب أفعال سيدة عجوز لم يزرها شيب رأسها بعد…
أمي لم تكن أماً تقليدية، ولم تعرف غباء الحكاية التي عرفت سردها، كنا نخاف غضبها، ونستهجن لسرعة تسامحها، اعتقدنا ونحن ننظر إلى حركة أمومتها أنها المارد الجبار، ووعاء الأمان، والحضن المقاوم، والحروب المشتعلة بعاطفة يحتلها الانتصار الموعود! وذات قمر مضاء قالوا إنها لن تمرض لكثرة تطنيشها لإساءات من حولها، ولكن الزمن أمطرها بأوجاع من هنا وهناك، وكل مصيبة أصابتها تغلبت عليها حتى خلناها تحب الوجع، وتفاخر بالمرض كما تفاخر بحياكة الذوق والأناقة وترتيب لحظات غيرها، كأنها متصالحة مع أعتاب السماء!
عام على رحيل أمي والعالم ينشغل بتسليم العام بأوراق نهاية خدماته إلى طفل جديد يبحث عن غدرنا، والكل فرح بكذبة سهرة (رأس السنة) وأمي حملت ابتساماتها المشرقة ورحلت من دون أن تتلفت، قررت هذه المرة أن تثور على المرأة الصابرة، قررت التصالح مع الرحيل الأبدي، وحملت ورقتها التي سقطت من شجرة الحياة لتجد مَن يفسح لها المجال في لحظة من زمن يشوبه المطر والرعد والبرق والعاصفة والعاطفة، لم تكترث لدموعنا المنهمرة، ولم تكفكفها كعادتها، ربما أرادت الاغتسال بها من دون إحراجنا !
ما أصعب ذاك الرحيل يا أمي، وما أصعب العيش من دونك يا أمي.
ما أصعب زياراتك المتكرّرة في أحلام تختزل بكلمة، صحيح تسألين عنا، تبحثين عن أحوالنا، تشاركيننا في ما تبقى من حياكة أعمارنا لكن أشعة الشمس تجعلك تسارعين إلى الغروب، وترتدين عباءة الغيم، ومعك مظلة من سراب السفر الطويل في طريق وحيد لا يعرف مواربة الجسور، هناك لا نعال، ولا انتظار، ولا حتى اختيار واختبار… بل سهام اشواقنا، وحنين معاطفنا التي كانت تشعل الدفء فينا وفقدناها مع رحيلك…
الأحلام يا أمي مَصيَدة لصبر الوجود، وشهادة زور، وشواهد على قصف لحياتنا المربكة معتقدين بأنها رسائل تصفعنا، وتدفعنا كي نفتح نافذة، وتجعلنا نصبر أكثر!
الأحلام يا أمي والتي تزينيها وتعصفني مع كل فجر هي استهداف لوثائق الرحيل، وعين شاردة تطبعها صور مَن نُحب، وحقيقة تقول إن البعاد حقيقة النحيب!
الأحلام يا أمي وعاء كبير رميتِ فيه حبة دواء لتصبح فيه أحلامنا أحاجي تمنياتنا !
عام بسرعة اختزل رحيل أمي، ما اقسى الرحيل حينما يستمر بسفرك السرمدي، وما اشقى ذاكرتنا كلما فرضت صورك، وما أتعس الحياة من دون رحم امي وحضن أمي ونفس أمي وقلق أمي وسؤال أمي وطعام أمي وحكايات أمي، وقلقها كأننا لا نبرح اللعب مع الطفولة!
نعم، أمي ماتت ولا يزال مسرح الحياة ينام في كفَّي أمي، والبسمة تسبق الريح من دون أن تصلنا، والورد يتفتح راسماً أريجاً من عطر بعيد نجده على قبر أمي…
صبرنا اليوم سُجن في زيارة قصرها الثابت مع رخامة تختزل ما كان، وكتب عليها اسمها وتاريخ الولادة والرحيل والسلام!
زيارة قبر أمي مخدّتنا، والبوح العميق، وقبر أمي يصنع المرايا، وأمواج الصمت، والنظرات الشاكية، ودموع الألم… وما أصعب رحيلك يا أمي…!