دبلوماسية «أغنية البجعة» الترامبية…
} د. رمزي عودة*
وصف الخبير المصري في الشأن السياسي الدكتور جمال زهران في مقالته في صحيفة «البناء» استمرار نشاط الدبلوماسية الأميركية في المرحلة الانتقالية الحالية التي تسبق تسلم إدارة بايدن للإدارة الأميركية، بأنها استمرار لـ «الأعمال البهلوانية» لترامب، والتي لها سقف وحدود في الدولة الأميركية العميقة. ففي العادة والعرف السائد في الولايات المتحدة، تخف وتيرة الدبلوماسية الأميركية في الفترة الانتقالية التي يقوم فيها الرئيس المنتهية ولايته بتسليم السلطة الى الرئيس الفائز في الانتخابات. وينطوي هذا العرف على أهمية عدم اتخاذ سياسات حاسمة لا ترضى بها أغلبية الجمهور الذي أعطى صوته لرئيس جديد، كما يُبرّر هذا العرف بضرورة إعطاء الوقت والمساحة الكافية للرئيس الجديد بصنع السياسة الخارجية التي يريدها وفقاً للبرنامج الإنتخابي الذي صوّت له الناخبون. وفي السياق، فإنّ تركيز الرئيس المنتهية ولايته يجب أن يتركز على توفير المعلومات الضرورية وتسهيل تسلّم السلطة للرئيس المنتخب بطريقة سلسة وهادئة.
وعلى خلاف المألوف والعرف السائد، من الواضح، أنّ الدبلوماسية الأميركية أصبحت أكثر نشاطاً في الفترة الانتقالية بعد الإعلان الرسمي عن هزيمة ترامب في الانتخابات. فقد أعلن الأخير في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عن خفض لقواته المتواجدة في العراق وأفغانستان، وبعد ذلك بعدة أيام، قام وزير خارجيته بومبيو بزيارة «إسرائيل»، وإلقاء كلمة تعبوية من داخل إحدى المستوطنات، فيما وصف هذا السلوك بأنه اعتراف رسمي أميركي ضمني بضمّ المستوطنات، كما أعلن بومبيو في زيارته للمنطقة تشديد العقوبات على إيران، ووصفت عملية اغتيال المهندس النووي الإيراني محسن فخري زادة بأنها أحدى المخرجات السرية لهذه الزيارة. وقبل تنصيب بايدن بعدة أسابيع بدأت إدارة ترامب في فرض عقوبات جديدة على إيران من شأنها أن تصعّب على الرئيس المنتخب بايدن إحياء الاتفاق النووي. وفي الأسبوع الأول من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، بدأ كوشنر صهر ترامب برحلاته المكوكية الى الشرق الأوسط ابتدأها بزيارة قطر والسعودية، وقد وصفت «قناة الحرة» هذه الزيارات بأنها «تأتي في توقيت حساس وملفات تسابق الزمن» تركزت كما يبدو على إنهاء ملفات الخلاف بين السعودية وقطر. وأخيراً وصل كوشنر الإثنين الماضي إلى الكيان الإسرائيلي» في آخر زيارة له قبل انتقال السلطة الى الديمقراطيين، وقاد الأخير وفدا إسرائيلياً – أميركياً إلى المغرب الثلاثاء لتوقيع إتفاقية التطبيع بين المغرب و»إسرائيل».
ومن أجل تفسير هذه الظاهرة الشاذة في الدبلوماسية الأميركية في المراحل الانتقالية، يؤكد الدكتور الفلسطيني المختص بالشأن الأميركي جون ضبيط على أنّ كوشنر يريد أن يضمن أمن «إسرائيل» قبل مغادرة البيت الابيض، ولهذا يمكن ملاحظة التسرّع العجيب والغريب في رسم سياسة جديدة يصعب على الرئيس الجديد بايدن تغييرها. ويؤكد على وجهة النظر هذه السفير الفلسطيني لدى بريطانيا الدكتور حسام زملط؛ واصفاً النشاط البلوماسي الأخير للولايات المتحدة بأنه «نشاط عصابات» وليس دبلوماسية حقيقية، وأنه يعكس في ثناياه «نشاطاً عقائدياً وشخصياً لكوشنر، الذي يؤمن بـ «إسرائيل الكبرى» من جهة، ويريد تأمين نصيبه الإستثماري بعد مغادرة حماه ترامب البيت الأبيض من جهة أخرى». من جانبه، يعتقد المحاضر في جامعة القاهرة الدكتور حسن نافعة، بأنّ السبب الكامن وراء هذا السلوك الغريب هو شخصية ترامب ذاته، والتي لا تشبه شخصية أيّ رئيس أميركي آخر. فهو يعتقد أنه الفائز في الانتخابات، و»بعد أن بدأ يستسلم للحقيقة المرة ويدرك أنه خسر وسيخرج حتماً من البيت الأبيض، فإنه أخذ بالسعي إلى إتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تهدف الى تعقيد مهمة بايدن، والذي يدرك – أيّ ترامب – بأنّ الأخير سيجري تعديلات جوهرية في السياسة الخارجية».
وفي تفسيره لاستمرار نشاط الدبلوماسية الأميركية في الفترة الإنتقالية لمرحلة ترامب، يفسّر الدكتور خليل جهشان مدير المعهد العربي في واشنطن هذا الاستمرار بسبيين؛ السبب الأول يعكس المحاولات البائسة لتعطيل تسلم الرئيس المنتخب لسلطاته الدستورية أو شلّ سياساته عبر خطوات تحريضية وتعجيزية لإفساد كلّ ما يمكن إفساده وتوريثه للفريق الجديد لتعقيد مهماته والتقليل من فرص نجاحه. أما السبب الثاني، فيكمن في محاولة ترامب ومستشاريه تحقيق المزيد من الأهداف السياسية التى لم يسمح لهم الوقت في إتمامها من قبل؛ مثل مجابهة إيران اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً، وإقناع المزيد من الدول العربية للتطبيع مع «إسرائيل»، وذلك بهدف تحقيق مكاسب شخصية، مالية وسياسية على حدّ سواء، للاستمرار مستقبلاً في أنشطتهم السياسية المدعومة من اللوبي الصهيوني وأنصار «إسرائيل» من الأصوليين المسيحيين الصهاينة وحلفاء ترامب ونتنياهو في المنطقة بهدف تبييض صورتهم في أعين الرأي العام الأميركي، وضمان عودة الحزب الجمهوري الى البيت الأبيض عام 2024. ويؤكد على وجهة النظر هذه الباحث نادر الغول قائلاً «وربما لو كان الرجل – والمقصود هنا ترامب – يسعى حقيقة للترشح مرة أخرى عام 2024 فإنه يريد أن يترك إرثاً لنفسه في المستقبل يكون أحد أساسيات حملته الإنتخابية القادمة»!
في المحصلة، فإنّ الدبلوماسية الأميركية النشطة في أواخر عهد ترامب، تصرّ على إطلاق رسائل للعالم بأنّ الشعبوية والبراغماتية الترامبية في السياسة الخارجية الأميركية لن يكون من السهل إسقاطها حتى لو سقط ترامب نفسه في الإنتخابات. وقد نجح ترامب في أن يغلف هذه الشعبوية البراغماتية بنزعة صهيونية واضحة، إلا أنه تناسى عمداً بأنّ كلّ ما يفعله ليس سوى «عزف نشاز لأغنية البجعة» – وهي عبارة تطلق على أيّ نشاط أخير قبل التقاعد أو الموت» –، ستصعب الأمور على بايدن، ولكنه حتماً يستطيع أن يستمع للكثير من المعزوفات السياسية غيرها.
*مدير وحدة الأبحاث
في معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي