مسعد حجل… مناضلٌ من طرازٍ مختلف
اعتدال صادق شومان
قامة منتصبة، ما انحنت للزمن وعصفه، ثابت لم تبدّله تحوّلات، ولا حال من الأحوال.
أما وقد بلغ في العمر عتياً، وقد طوّع المئة وحافظ على الجذوة تُعمّر ولا تشيخ، وتزداد غنىً وإشعاعاً وفتوّة. وقد تجلّى في بيئته عنواناً حَسَباً ونَسَباً، نزاهة وفطرة، وقد ثبت على سجاياه التي اجتمعت شمائله عليها، متفيّئاً بظلال الزعيم أنطون سعاده قَسَماً وعهداً، ولم يبدّل تبديلاً.
مسيرته العريقة تعبّر بذاتها عن نضالات ومآثر وإنجازات. فقلائل هم الرجال الذي حفروا بلادهم في قلوبهم كما فعل الأمين مسعد حجل. مجاهد في سبيل إعلاء شأن الحركة القومية التي انخرط في صفوفها في مستهلّ الشباب، وفي تجسيده البعد الإنساني لهذه النهضة بكلّ منطلقاتها وأبعادها ومكنوناتها المختزنة في أصالته بعداً أرقى وأبقى. امتلك الرؤية الثابة وبُعد النظر، مقصده الأصيل من الجوهر. امتهن ابتداع الأمل. وخلق الحياة الجديدة كما تستحق أن تُعاش وتروى. وهكذا لبث يطلّ علينا من حيث نهض به إيمانه وسما به خلقه بأدب وعطاء ومروءة ومناقب، آثر فيها الوفاء والالتزام، في تماهيه مع الإرث الصراعي للـ«نحن».
«واوُه» المعطوفة، رفيقة دربه «الشقراء»، ربّة الوجه الصبوح، وعروة دهره وصائن عرينه نادية أبو جودة، الزوجة والرفيقة والأمينة في حلّه وترحاله، ورأسماله الأغنى من «الحبّ نظرة» حتى عتق الخمر في الخوابي، فاختصرا في مسيرتهما قيماً كثيرة، زخرا بعقيدة لم تضعف ولن، ولم تركن للراحة أو الاستِكانة، لأنه في يقينهما، «انَّ التاريخَ يسجّل الأعمالَ والأفعالَ… لا النيّات». ومعاً صبرا وجلدا على فقدان الابن والحفيد.
«مسعد حجل لم أبدّل… ولن»، مذكّرات لحصاد وافر تعدّد وتنوّع. حكايات طفولة ومآثر نضالية ورقيّ في مجتمع، وتجلّ في الحياة، نقطفها غلالاً وفيرة من بستانه الفسيح الذي يلامس «فقش الموج».
مذكّرات الحجل تطواف في نسيج عاطفيّ رقيق، وكلام مسهب، حضور مضيء ولامع في الساحات والميادين في الوطن والعالم، وهمّة لا تكلّ، ما غشاها ضعف أو ملل، كرجل لا تقيمه نوازل ولا تقعده.
هي سيرة مناضل من طراز خاص وحياة نضالية مشرقة متألقة، وقيمة عليا جديرة بأن تُحمى من النسيان، وبأن تبقى في مطرحٍ طيّب في الذاكرة.
ومن غفوة على خاصرة الزعيم في «سطيحة الدار»، إلى كنف النهضة لتبدأ مرحلة النضال الطويل، لم تثنِه صعاب أو يُضعفه اعتقال أو تحجبه غربة. يخوض غمار التحدّي ويحاصر النكبات، ليقف من جديد يسعى إلى التميّز والنجاح في بناء مشاريع و«أبراج»، لتترجم طموحاته الكبيرة، وقد جلبت إليه الثراء من غير أن يستعجله، بل انتزعه في إناءة صبر المكافحين.
وإن أمضى غداة خمسين سنة في المغترب الكاميروني ناقضاً مقولة إنّ «في البعد جفاء»، لإصراره على الإناطة بمسؤولياته تجاه وطنه وحزبه بملء كيانه. وإذ المسؤولية عنده أكثر من شعور أو حِسّ، بل هي محطّ ثقافة كاملة، بما هي نمط حياة فكرية وأخلاقية ونضالية. فأتقن دوره الجهادي والنضالي القومي والاجتماعي في عرين الوطن كما في البلاد الأفريقية. وتلك هي شيمة الكبار من المناضلين. بصماتهم تملأ صفحات الوطن… ودروب الحياة.
مسعد حجل الرفيق والأمين والرئيس مرّة ومثنّى وثلاثاً للحزب السوري القومي الاجتماعي، والحائز على «وسام سعاده» أرفع وسام حزبيّ، ونائب الرئيس للصليب الأحمر الكاميروني مدى الحياة، ومستشار السلك الدبلوماسي الكاميروني، وكومندور الدولة وقنصلها الفخري في لبنان، والرئيس السابق للجامعة الثقافية في العالم، ورئيس مؤسّسة «مسعد وناديا حجل الثقافية»، وصاحب الصروح العمرانية الفخمة، والعضو العامل في مديرية جلّ الديب، المواظب على الاجتماعات مثالاً للمنتمي المتواضع كأنه لم يبرح زمن المناقبية الأولى ومثالياتها في يقينه السلوكي، يملأه وضوحاً جلياً للمفاهيم القومية، والمتأهّب على الدوام لأمر جلل.
الكتاب المذكرات، المؤلَّف من جزأين، جاء سيرة ذاتية، فنجده حافلاً بأخبار وحوادث وأسماء واستعراض لجزء هامّ من تاريخ الحركة القومية، لتكتمل روايتنا الحزبية، بفيضها الزاخر بين تفاصيل طال شرحها، وإنْ اختصر فتلك دالة، والكثير من الحكايات، مدموغة بثلاثة مقدّمات مذيّلة بتواقيع الأمناء توفيق مهنا، نذير العظمة وفاروق أبو جودة. إضافة إلى الوزير الأسب د. عدنان منصور.
مسعد معوض الحجل المولود في 6 تموز 1921 في جلّ الديب، الابن الأصغر لوالده معوض الحجل الملمّ قليلاً في القراءة والسبّاق إلى المهجر، ولوالدة جليلة تصرّ على مذاكرة الدروس لأبنائها رغم جهلها القراءة.
من مدرسة الضيعة إلى بطريركية بيروت ليقضي سبع سنوات، وإذ اشتدّت وطأة الحرب العالمية الثانية ينقله والده إلى مدرسة عينطورة، ويحصل على شهادة البكالوريا. وما أن خبت طبول الحرب التحق مسعد حجل طالباً في الجامعة الأميركية، ليتخرّج مهندساً زراعياً عام 1944.
الطريق إلى النهضة
«صفعة تلقاها من أخيه ميشال» وضعته على طريق النهضة، يوم أثارت فضول الفتى اجتماعات أخيه الأكبر مع أصحابه، لتتردّد إلى مسمعه كلمات لم يفقه معناها آنذاك: الحزب، القضية، النهضة، الاستقلال، الحرّية الأستاذ… وقماشة سوداء يتوسّطها دولاب هواء أحمر، ما لبثت «القماشة» أن أضحت هي الراية بدعائمها الأربعة: الحرّية، الواجب، النظام، والقوة.
المهمة الحزبية الأولى، توزيع مناشير في زمن الاحتلال الفرنسي، والقوميون في مقارعته على دأب.
مهمته الثانية، انتظار «الأستاذ الملتحي» في ساحة جل الديب واصطحابه الى باحة المدرسة الرسمية، والحزب إبّان العمل السري.
وفي الأوّل من آذار 1937 رف «يمناه» من أجل قضية تساوي كلّ وجوده،. ليكتشف أنّ جلّ أصحابه من جلّ الديب هم رفقاء له في الحزب.
وفي السنة نفسها عُيّن بمرسوم من الزعامة منفّذاً عاماً لمنفذية المتن التي كانت تضمّ يومذاك المتون الثلاثة، المتن الشمالي والمتن الأعلى والمتن الجنوبي، ولعله في هذا الأمر يكون أصغر منفذ عام في تاريخ الحزب حيث كان في السادسة عشرة من عمره! وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّه يدلّ على ثقة سعاده به.
عام 1938 أهدى والدُه معوض حجل المتعاطف مع القوميين، مكاناً في وسط ساحة جل الديب ليكون مركزاً للحزب قبل أن تختمه السلطات الفرنسية بالشمع الأحمر في عام 1939.
وسيلته الأولى للتنقل دراجة نارية اشتراها له الوالد وخصّصها هو للمهمات الحزبية، ركن خلفه على دراجته قيادات منهم جورج عبد المسيح من غير تحديد ماهية مسؤوليته الحزبية، غير أنّ صاحب المذكرات كان يظنّه المسؤول الأول أو هكذا أوحى له. وأيضاً ركن خلفه عميد الثقافة فايز الصايغ ورشدي المعلوف والد الروائي أمين المعلوف وأيضاً معروف صعب، في مهمات استمرّت حتى عودة سعاده عام 1947، أيّ ما يقارب عشر سنوات. وفي حين سقط بعضهم على حافة الطريق، وضلوا ضلالاً بعيداً، ارتقى هو، رغم آلامه لسقوطهم، إلا أنه اختار كنف المؤسسات الحزبية يستظلّها نظاماً بديعاً للحزب.
عام 1941، اعتقلته السلطات الفرنسية واقتادته إلى سجن «الميّة وميّة» الذي كان سبقه إليه طالب الطب عبد الله سعاده إلى جانب عدد من الرفقاء منهم «القبضاي» وديع الياس، إدوار توتنجي، فارس معلولي، مأمون أياس، ونعمة تابت ووليام سابا الذي درّسه اللغة الألمانية حتى الاتقان، وميشال قيامة صاحب «أوتيل السنترال» في ضهور الشوير الذي سيصبح محطة في تاريخ الحزب بعد «تحصّن» سعاده به على إثر صدور مذكرة التوقيف الشهيرة غداة عودته من مغتربه القسري.
وفي المذكرات أيضاً الجنرال جميل لحود والد الرئيس إميل لحود يطلق ثلاث رصاصات من مسدّسه الأميري «لعيونك زعيم» لمناسبة الأوّل من آذار عيد مولد سعاده.
وأيضاً نقرأ الرواية الكاملة لحادثة اغتيال الرفيق إبراهيم منتش، كما شهدها شخصياً المنفذ العام مسعد حجل خلال مشاركة القوميين في مهرجان في ساحة البرج وسط بيروت دعا إليه الحزب تنديداً بوعد بلفور وكان أبرز الخطباء فيه صديق الحزب رئيس الحكومة آنذاك سامي بك الصلح.
وعلى هذا المنوال، تكرج الذكريات مع الأمين مسعد حجل بما هي شهادات شخصية، وسيرة ذاتية عفوية، وسرد لأعماله وآثاره، إلى جانب حقائق شهدها، وكان طرفاً فيها، تكمن أهميتها في أنها ليست تخميناً أو تأويلاً عن مصدر آخر. نقلها إلينا بأمانة وهي تعكس تجربته ودوره في الفعل التاريخي بحكم موقعه كفاعل رئيسي، مناضل في صفوف النهضة السورية القومية. في المقام الأول قدّر له التعرّف إلى سعاده عن قرب، ورجل أعمال في المقام الرفيع، وهي في جانبها الشخصي قصة نجاح عامرة يقتدى بها. وفي فيضها النضالي تقتضي منهج التحليل ومحاكاة أحداثها وتواريخها وإسقاطها على مدوّنات الحزب للمقارنة والمقاربة، وهذه مهمة نتركها للباحثين في تاريخ الحزب ومسيرته ليخرجوها من حيّز «على ذمّة الراوي» إلى منزلة الصحيح من التاريخ… وهنا بيت القصيد من كتابة المذكّرات.