إيقاع الشعر العربيّ بين الثَّبات والتَّحوُّل
} عبد المجيد زراقط
قرأت، في مقالة نُشرت مؤخَّراً في جريدة « البناء «، ما يقتضي نقاش قضية «إيقاع الشعر العربي بين الثَّبات والتحوُّل».
جاء، في هذه المقالة: «لم ينشأ أيُّ اختلال في منظومة الإيقاع في الأدب العربي الى أن ظهرت قصيدة التفعيلة بداية الخمسينيات، وتلتها القصيدة النثرية، متجاوزة الإيقاع الخارجي الخليلي، ومرتكزة على الإيقاع الداخلي للنَّصِّ الشعري».
في البدء، نلاحظ أنَّ مصطلح «اختلال» يفيد افتعال «الخلل»، وما عرفه إيقاع الشعر العربي من تحوُّل ليس خللاً، ولا افتعالاً له، وانَّما هو تطوُّر أملته التجارب الحياتية الشعرية .
ولعلّ كاتب المقالة، عندما استخدم مصطلح الأدب أراد الشعر، لأنَّ كلامه، في المقالة، تركَّز على هذا النوع الأدبي .
ما نريد نقاشه مسألتان: أولاهما الإيقاع الشعري وتقسيمه الى خارجي وداخلي، وثانيتهما زمن تحوُّل الإيقاع وما إذا كان بدأ معه قصيدة التفعيلة .
من المعروف، في ما يتعلَّق بالمسألة الأولى، أن الإيقاع مصطلح معتمد في فنَّي الموسيقى والرقص، وأنَّ النقَّاد والشعراء العرب القدامى، لم يستخدموه، وإنَّما استخدموا مصطلحي الوزن والقافية، ونتيجة تأثر النقَّاد والشعراء العرب المحدثين بالنقد الغربي استخدموا هذا المصطلح .
في تحديد مفهوم الإيقاع، يمكن القول: وقع، لغوياً، أصل يدلُّ على سقوط شيء يُحدث صوتاً، فاذا تكرَّر هذا السقوط / الصوت بانتظام سُمِّي هذا التكرار المنتظم إيقاعاً. فمفهوم الإيقاع اذاً هو تكرار ظاهرة صوتيّة ما على مسافات زمنية متساوية، أو متجاوبة .
كأن ينقر ضابط الإيقاع، في الرقص، خمس نقرات خفيفة، ثم ينقر نقرة سادسة قوية، ويكرِّر ذلك بانتظام، وتتحرّك الراقصة وفاقاً لهذا الإيقاع، فيكون نقر ضابط الإيقاع إيقاعاً خارجياً، وتكون حركات جسد الراقصة إيقاعاً داخلياً .
فلو نظرنا الى الشعر، في ضوء هذا الفهم، وسألنا: هل الوزن الخليلي والقافية إيقاع خارجي أو داخلي؟ وبصيغة أخرى للسؤال: هل يصدران عن مصدر يقع خارج النص، مثل «دربكة « ضابط الإيقاع أو يصدران عن النص نفسه، بوصفهما مكوِّنين أساسيَّين من مكوِّناته، وبذلك يكوّنان إيقاعاً داخلياً لا خارجياً؟
بغية الإجابة عن هذا السؤال، نقدِّم معرفة بهذين المكوِّنين الشعريَّين .
الوزن الشعري، كما هو معروف، هو تعاقب الوحدات العروضية: التفاعيل التي تتكوَّن كل واحدة منها من مقاطع طويلة وقصيرة، في نظام متوازن. وهذه المقاطع، ثم الوحدات، تتكوَّن من نظام معين من الحركات والسكنات، يكتمل بالقافية، وهي صوت يتكرّر بانتظام، بعد ذلك النظام من الحركات والسكنات، كأنه النقرة السادسة في المثل الذي قدّمناه اَنفاً. تم تبيُّن هذا النظام استقراءً من الإنتاج الشعري العربي الجاهلي والإسلامي، ما يعني أنه وليد التجربة الحياتية الشعرية، ومكوِّن أساس من مكوِّنات النص الشعري .
نستطيع القول، في ضوء هذه المعرفة، إنَّ هذا الإيقاع، المتمثل بالوزن والقافية، ليس إيقاعاً خارجيّاً، وانَّما هو داخلي، والإيقاع يكون خارجياً اذا كان مصدره خارجياً، كالعزف الذي يمكن أن يصاحب إلقاء الشعر، على سبيل المثال، ووصف هذا الإيقاع، أي الوزن والقافية، بالخارجي خطأ شائع ينبغي أن يتم تصحيحه.
وفي ما يتعلق بالمسألة الثانية، وهي زمن تحوُّل هذا الإيقاع…، نعود الى تاريخ الشعر العربي، ونتتبَّع تطوره على هذا المستوى، فنلاحظ، أوَّلاً، أن كثيراً من القصائد الجاهلية، ولكبار شعراء العصر الجاهلي كامرئ القيس وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد «لم تنتظم وفاقاً لأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي»، ومنها لاميّة امرئ القيس وبائية عبيد. وثانياً تجارب «عكس البحور»، أو «أوزان المولًّدين»، وعددها ستة أوزان. وثالثاً «البحور المنطلقة أو المُحدّثة «، ومنها تجارب أبي العتاهية الذي كان يقول: «أنا أكبر من العروض»، وقصيدته: «للمنون دائرات يدرن صرفها» معروفة. ويصف ابن قتيبة هذه التجارب بأنها «شعر موزون يخرج به الشاعر عن أعاريض الشعر وأوزان العرب». ورابعاً «أوزان من الشعر شعبية، أوزانها جديدة، ومغايرة لأوزان العروض»، مثل «الزجل القديم» و» الكان كان» و»المواليا» و»القوما « و»السلسلة». وهذه الأنواع من الشعر تخرج على أنظمة العروض وزناً وقافية. ويمكن العودة الى كتاب «العاطل الحالي والمرخص الغالي» لصفي الدين الحلي لمعرفة المزيد عن هذه الأنواع . وخامساً «المثنوي»، أو مزدوج الشطر، وسادساً الرباعي، أو مزدوج البيت، وسابعاً «المربَّعة الروضة»، وهي قصيدة طويلة وحدتها أربعة أبيات، يبدأ كل منها بحرف، وينتهي به بوصفه قافيتها، ثم ترد أربعة أبيات أخرى يبدأ كلٌّ منها بالحرف التالي، وهكذا… وثامناً «أشكال من التنويع البنائي «، وهي كثيرة، منها: التشريع، المقطَّع، القواديسي، المشطَّر، المسمَّط…، ما أدى الى ولادة الموشح. وتاسعاً التحرُّر من القافية والنظام المتوازن، مثل قصيدة أبي نواس، التي تحرّر فيها من التوازي في الأشطر، واستخدم الصوت قافية، ومنها :
« ولقد قلت للمليحة قولي / من بعيد لمن يحبك: ( صوت القُبلة ) / فأشارت بمعصم، ثم قالت / من بعيد خلاف قولي: ( صوت النفي لا لا ) / قلتُ للبغل عند ذلك : (صوت امش ) . وعاشراً «البند «، وهو نوع من الشعر لا يتقيَّد بنظام الشطرين، ولا بأوزان العروض، وعدَّه بعض النقاد شعر تفعيلة. وحادي عشر تجارب التجديد في عصر النهضة، وهي كثيرة ومتنوّعة وغنية ولشعراء مجدّدين كبار …
وقد يكون ذا دلالة على هاجس التحوُّل أنّ شاعراً تقليدياً عارض قصائد القدماء، كالبارودي، نظم وفاقاً لوزن جديد قال بعض النقاد إنه ينطلق من المتدارك، وقال بعضهم الاَخر إنه ينطلق من مشطور الخفيف، ومن ذلك نظمه: «املأ القدح / واعص من نصح».
يفيد ما سبق أنَّ الخروج على إيقاع العروض: الوزن الخليلي والقافية لم يتوقف طوال تاريخ الشعر العربي، وقد عرف هذا الخروج تحوُّلات كثيرة تمثلت في أنظمة كثيرة متنوِّعة، وإن كنَّا قد اكتفينا بالإشارة الدالة، فذلك ما تقتضيه المقالة القصيرة في جريدة يومية .
هذا في ما يتعلق بالوزن الذي ينظم الإيقاع الكمي للحركات والسكنات، والإيقاع الزمني، أما ما يتعلق بعناصر الإيقاع الأخرى، فالحديث عنها يقتضي مقالة أخرى.