جماليّة «المراوغة» في القصة الوجيزة قصة جنون لحمد الحاجي أنموذجًا

} إلهام مسيوغة*

القصّة الوجيزة: «جنون» لحمد الحاجي

ليلتئذ خرج.. عيناه سحابتان وصدره هدير.. الرحلة بعمق المستحيل.. ضجّ فكر الغوريلا القابع بداخله:

ما وجهتك؟

المدى!

لن أقف عند الزوايا التي سجّل من خلالها الأستاذ مسلك ميمون «الحالة» في قراءته لهذا النص، بل سأنحو منحى آخر وأراوغ الأعمدة التي نصبها ناقدنا في ملعب هذا النّص ولا رغبة لي سوى تحقيق متعة اللّعب والمراوغة وصولاً إلى المرمى ولو كان سراباً.

المراوغة الأولى: ليلتئذ

اسم مركّب من ليلة وإذ المنوّنة وفُتحت اللّام على البناء والمراد (في تلك الليلة..). يعني ليلتئذ رغم تنكيرها وتنوينها وبنائها فهي ليلة معلومة مشهودة موسومة، ليلة لها علامة فارقة مخصوصة تميّزها عن سائر اللّيالي، قد تكون ليلة نكراء نكداء أو ليلة حسناء زهراء. لكن ما هو مؤكّد أنّها لم تُنس ولن تُنسى.. ما الذي يميّزها؟ السّبب المضمر أم النتيجة المعلنة وهي فعل الخروج؟

المفارقات تحكم البدايات: اسم نكرة منوّن ومعلوم/ السبب المعلوم مسكوت عنه والفعل المألوف يشكّل غرابة.. منذ البدء والكاتب يأخذنا على حين غرّة.. بداية هادئة في ظاهرها، ملغومة في باطنها.

المراوغة الثانية: خرج

هي ليلة الخروج أم ليلة سبب الخروج أم كلتاهما؟ والأرجح أنّ السبب أهمّ من فعل الخروج، ما الغريب في أن يخرج؟ لكن إذا اقترن الخروج بتلك اللّيلة المعلومة يصبح فعلًا غريبًا قد يبشّر أو ينذر بفعل لاحق. هذا من حيث طبيعة الحدث أمّا من حيث الكينونة ففعل الخروج يقتضي دخولًا سابقًا، من أين خرج بل أين كان؟ هل يُفترض أن يكون البيت؟ من يؤكّد ذلك؟ هذه الكينونة المجهولة تسيّج النصّ بدائرة تأويليّة هلاميّة. حتّى السّياق بدا ضبابيًّا ضبابيّة فعل الخروج. لعلّه خروج معنويّ من حالة (يأس/ مرض/ حزن/ سجن/ عجز…) أو خروج من مرحلة متأزّمة ولا علاقة للفعل بالمكان. وجرت العادة في اللغة أن نقول دخل في شرّ وخرج من شرّ والعكس غير صحيح. وإن صحّ ما ذهبنا إليه يصبح الخروج بشرى وفعلًا محمودًا. 

المراوغة الثالثة: النقاط

نقطتان لا ثلاث.. علامات سيميائيّة دالّة قد تؤوّل بحالة صمت وتفكير. لكن ما يلفت الانتباه عددُها. لماذا تخيّر الكاتب نقطتين فحسب؟ هل يمكن أن يكونا ساقين تسيران على غير هدى في الطريق؟ هل هما أثران لقدمي البطل بعد الخروج وأثناء السّير؟ هل هما نقاط الإسراء والمعراج؟ وتتكرّر هذه العلامات بعد كلّ جملة. تكرّرت بعد الخروج وبعد الهدير وقبل الضّجيج. ثم توقّفتا. غابتا. مع غيابهما توقّفت رحلة المستحيل ليصل البطل إلى اللّامتناهي. هذه النّقاط إذًا هي نقاط الحركة، نقاط الحياة، نقاط الوجود، نقاط الأمل.. نقاط تضجّ إيقاعًا كأنّي أرى طيف البطل خارجًا من ذيل الجملة وأسمع إيقاع خطوه على الطريق.. خطوة خطوتان.. إيقاع خطو هادئ متوازن لا هرولة فيه ولا تعثّر ولا تراخٍ.

الهدف الأوّل: عيناه وصدره

نحوياّ: – مبتدأ 1: عيناه منفذا الضوء

– خبر 1: سحابتان والسّحاب غير الغيم. (والسّحاب لفظ ورد تسع مرّات في القرآن) والسّحاب هو مرحلة من مراحل تكوّن الماء النّازل من السّماء حيث يرسل الله الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء «الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا».

– مبتدأ 2: صدره موطن الحِلم كما كنّت عنه العرب

– خبـر 2: هدير والهدير من معجم الأصوات المردّدة (صوت الإبل والأسد والفحل والحمام) أصوات تختلط فيها القوّة بالضعف والعنف باللّين. وكلّها أصوات تتردّد في الحنجرة ولا تخرج من الفم. وأكاد أسمع.. بل إنّي أسمع…  أطرقت أصغي لقصف الرّعود     وعزف الرّياح ووقع المطر

وقد يكون الهدير في المعاجم من معجم الطّبيعة (الماء أو الرعد وغليان الشراب في الوعاء). وما يهمّنا في هذا الاختلاف اجتماع العناصر في وجه واحد وهو الترديد.

بلاغيّا: – تشبيه بليغ. فلو ألّفنا الصور لبانت لنا الدّلالات «عيناه سحابتان» فعيناه منفذا الضوء تشبهان السّحاب أي مرحلة من مراحل تكوّن الماء، والماء خلق الحياة، والحياة أمل، والأمل خروج من حزن أو يأس. وهذا السّحاب لا يتكوّن إلّا برياح أخر. وهي رياح مبشّرات ناشرات ذاريات مسؤولة عن حمل كلّ نوع من السّحب في مكانه كما وردت في القرآن الكريم «ومن آياته أن يرسل الرّياح مبشّرات» (سورة الروم) وليست ريحًا صرصرًا ولا عقيمًا ولا قاصفًا ولا عاصفًا مدمّرة.

و»صدره هدير» فصدره موطن الحلم يشبه الهدير أي يعجّ بالأصوات والتّرديدات. والتّرديد صوت يولّد موسيقى. وكأنّ هذا البطل في سيره يتغنّى ويردّد داخله صوتًا مرّة يقوى وأخرى يرقّ. فبم يتغنّى؟

وإن نعقد الصّلة بين السّحاب والهدير نُلْفِ الحالة التي يسير عليها البطل منذ خروجه. هي حالة انتشاء وتغنّ بمعاني الحياة والأمل والخلق والإبداع.. والسّؤال لا ينفكّ يضغط على القارئ: إذا كانت عيناه سحابتين وصدره هديرا أ فلا يمكن أن نتكهّن فمه؟ الأرجح أن يكون باسماً ولو كان في قلب الصّحراء.. وأنا الآن أكاد أصغي إلى إنشاده وترنيماته..

قد يكون هذا الذي يسري ليلا شاعرا أو موسيقيّا عميقا. فكلّ عبارة تخرج من فمه ملؤها الشّعر والجنون وما قاله جبران في كتابه «رمل وزبد والموسيقى» يؤكّد حالة الجنون التي يكون عليها المبدع: « ليس الشّعر رأيا تعبّر الألفاظ عنه بل هو أنشودة تتصاعد من جرح دامٍ أو فم باسم.. وعبثا يحاول الشاعر أن يهتدي إلى أمّ أناشيد قلبه… وإذا ترنّمت بأناشيد الجمال تجد من يصغي لإنشادك ولو كنت في قلب الصّحراء…». والمجنون موسيقيّ مثلك مثلي، ولكن الآلة التي يضرب عليها لا تخرج ألحاناً بل قد تُخرج ققجيّات.

المراوغة الرابعة: الرحلة

رحلة عميقة.. لا اتّجاه لها سوى نحو الباطن.. في الذّات والوجدان.. رحلة بحث عن فهم الذات والتعبير عن تجلّياتها.. قد تكون هذه الرحلة هي الكتابة، لأنّها رحلة وسفر نحو الخيال، الكتابة خيالات قد تحضر وتغيب تمسك بها مرّة وتراها يقيناً وأخرى تفلت منك وتراها سراباً.. لعلّها مسيرة ذات باحثة في واقع جاهل بائس عن حلّ وجواب لإدراك سرّ الوجود وسرّ الحياة المكنون وهو بحث وإدراك تقريباً من عمق المستحيل. فهي رحلة الحياة والانعتاق والتحرّر من فضاء الجسد والزمان والمكان. رحلة الإبداع وجنون الخلق والإسراء ليلاً. هي رحلة التّأمّل والرؤى والتقاء الأطياف. هي مسيرة عصيّة شائكة ومسالكها وعرة، فإذا لم تشاطرالبطل شعوره وتصبغ فكرك بصبغة جنونه، فعبثا تحاول أن ترافقه في سياحاته اللّيليّة..

هي رحلة الجنون والجنون أولاً لا نعني به فقدان الرّشد والحكمة والعقل، بل هو في معنى الانفراد والاختلاف. هي رحلة الخروج عن المألوف والانفلات والتحرّر من كلّ الأنساق القديمة والأغلال التعيسة.. والجــنون نهج عـــمد جبران إلى الدفاع عنه وإلى تبرئته في مقدمة كتابه «المجنون» يقول بوضــوح: “هــكذا صــرت مجنونًا، ولكني وجدت بجنوني هذا الحرية والنّجاة معًاً: حرية الانفراد، والنّجاة من أن يدرك الناس كياني». هي رحلة النّجاة إذن بل رحلة الجنون والمجنون يكره الجمود ويمقت القيود…

 المراوغة الخامسة: ضجيج الغوريلا

الغوريلا.. حيوان برّي يسير على اثنين على شاكلة الإنسان.. والمألوف أن يكون قابعاً في الغابة والبراري القصيّة يعيش في الأشجار لا أن يقبع داخل البطل. فهي صورة مجازية لإيراد معنى جديد. الغوريلا يتمتّع بالقوّة والذكاء والعنف والاستقلال وحبّه للحرّية. وحين يغضب يضرب على صدره ضرباً عنيفاً ويُطلق من حنجرته أصواتاً بموجات عالية لإيصال رسالة. يحضر الغوريلا بخصاله في ذات البطل.

وفعل الضجيج في معناه الإيجابي له مرجعية شعريّة تستدعي روح الشابي. فكما استعمله الشابي للتعبير عن دماء الشباب وجسّد تلك القوّة المعنويّة بالرياح استعمله كاتب النص للتعبير عن قوّة الفكر ومعانيه مختزلا إيّاها في «فكر الغوريلا» محدثا تناصّا ملحوظاً

«فعجّت بقلبي دماء الشباب             وضجّت بصدري رياح أخر

الهدف الثاني: المدى

حين تتبّعت هذه الذات المبدعة حدّ الجنون، الثائرة حدّ التمرّد، وجدتها واثقة حدّ الجزم. قد خبّرتنا عن واقعها في قولين: ســؤال فجواب. نجد الذات نفسها قد تولّدت عنها ذات أخرى في حالة استفسار وتجلّ صريــح. «ما وجهتك؟» فهل هو استفسار عن مجهول أم إثبات لمعلوم؟ لكنّ الأرجح سيــاقيّا أن يفــيد السّؤال معنى الإثبات والتّعبير عن يقين لا حياد عنه ووجهة معلومة لا يملك غيرها وهي «المدى». والمدى جاء جوابًا واضحًا لا تردّد فيه ولا تلعثم ولا ثقل. ضجيج الفكر أسفر عن اختيار وقرار «وجهتي المدى».

إذًا الوجهة محدّدة والبوصلة معدّلة والطّريق مرسوم فلم السّؤال؟ من الواضح أنّ الكاتب تخيّر أن يفصل بين المبتدأ والخبر وجعل الأوّل سؤالًا والثاني جوابًا لإحداث حيويّة في النّــص وكــسر رتابة السّرد رغم إيجــازه وعــدم السّــقوط في الجمل التّقريرية. والطّريف أنّ كاتب النّص بعد ثلاث جمل خبريّة وجيزة شعر بالرّتابة في قصّه فحاول كسرها. فبم يمكن أن يشعر حمد الحاجي بعد أن يقرأ مئات الجمل التّقريريّة في بعض السّرود الأخرى؟ تُراني يُتهيّأ لي أنّني أسمع صوتًا خفيتًا يخرج من أعماق النّص يقول: «رفقًا على القرّاء».

ما المدى؟ مفردة قويّة جدّا وقصيرة جدّا وواضحة قليلًا. هو المسافة والمنتهى والغاية. لكن هل هو المدى القصير أو الطويل؟ المدى القريب أم البعيد؟ عن أيّ مدى يتحدّث؟ عن المدى الزماني أم المكاني؟ هذه الكلمة الزّمكانية الفضفاضة تجنح بالقارئ في آفاق رحبة من التّأويل. لكن ما هو مؤكّد أنّه مدى إيجابيّ وأفق طلق يغري بالانطلاق يذكرنا بمعجم الحرّية والانطلاق في شعر الشّابي «سماهْ، رُباهْ، ضياهْ، إياهْ، صداهْ، الإلهْ…). هو مدى منشود فيه رفض للقيود والجمود والذّلّ والرّكود. هذا البطل هو ابن المدى ومَن آمن بالانطلاق آمن بضرورة النّهوض والخروج من كلّ بأس وداء. لذلك «ليلتئد خرج..» في بداية النص.

قصّة وجيزة لها أبعاد إنسانيّة مطلقة تعجّ بمعاني الأمل والحرّية والتمرّد والانطلاق وتتغنّى على إيقاع الشّابي بقوّة الإنسان الحرّ الذي يؤمن بصوت الحياة القويّ ويمشي بين المروج ويشدو بما شاء وحي الإله.

النتيجة:

آه! الكشف! هنا نكتشف فلسفة حمد الحاجي في الكتابة: له الاختزال المكثف وللقارئ فعل الكشف. فكاتبنا غير مسكون بهاجس المعنى أو الفهم بل مهووس بلعبة التخفّي والاختزال المكثّف على نهج جبران والشابي ودرويش والسيّاب لما فيه من إثارة على غرار الألعاب التي كنّا نمارسها في صبانا «الغمّيضة، الشدّة، الألغاز، السحر..»، ولعلّ هذا ما يثير المبدع في الجنون هو الثرثرة الغامضة الجامعة بين الرشد والهذيان ومتعة البحث عن المعنى ولذة الكشف عن المقصود واتّساع دائرة التأويل.

*عضو ملتقى الأدب الوجيز

صالون سوسة – تونس.