ذكرياتي مع فيروز (ج. 6)
} رانية مرعي
«مرق السّفر وأخد الناس
أخد المطارح والحرّاس
واللي كتب السفر بقي بلا سفر
راحوا كلّ الناس ..»
وراح أبي معهم.. حقيبةُ سفر سوداء.. وأمّي تعطّرُ قمصانه بدموعها وتوصيه بين العَبرةِ والعَبرة ألا يُطيل الغياب.. وقبلاتٌ صامتة على جبيني وثقة أنّي سأكونُ فتاةً عاقلةً ومطيعة ..
واجتمعت العائلةُ في تلك الليلةِ الكئيبةِ لمرافقة أبي إلى المطار، لم أجد فرصةً لأقولَ له “لا ترحل!»، غفوتُ من خوفي ولمّا استيقظتُ وجدتُ وردةً على وسادتي من يده الدافئة التي لم تجرؤ أن تلوّحَ لي بالوداع ..
صمتٌ موشومٌ بالبكاء، وتنهيدةٌ نحرَت صبرَ فتاةٍ على أمرٍ لم يسألني أحدٌ فيه عن رأيي:
«خوفي للباب
يتسكّر شي مرّة بين الأحباب
وتضل تبكيني الليالي الحزينة ..»
وصارَ اللقاءُ مع أبي رنينَ هاتفٍ ورسالة تتصارعُ فيها عباراتُ الشّوق ..
ويُطلُّ العيد..
وعبثًا كنتُ أبحثُ عن شوقي لصباحه.. حتّى فاجأتُ أمي بعبارة “أنا أكرهُ أبي ..»
كلام ما ظننته سيتجرّأ على البوح.. ولكنّه كان عقابًا لكلّ من دبّرَ مؤامرةَ الرّحيل ..
نعم.. أبي
«أنت لي بكرهه
واللي بحبه أنت ..»
ما معنى أن يأتي العيدُ وأبي بعيد؟
ما معنى أن أتفوّقَ في مدرستي ولا ألمحُ لمعةَ الفخر في عينيه؟
ما معنى أن أخافَ في ليالي الشتاء ولا أجد حضنَه يحميني من صوت الرّعد؟
ما معنى أن يتركني وحيدةً أبحثُ عن ظلّه في زوايا ذاكرتي؟
«قلتلهم يا مين عالحلوين يسألني
ما تذكروا تخمين صاروا هيك غدارين
مع غيرنا رح يسعدوا .. «
وطالت الأيامُ ، وذبلتُ كالخريف.. صرتُ أعبُّ النسيمَ علّه يحملُ عطرَ ذلك الرجل الذي خاصمته علنًا، ولكنّي كتبتُ له على جسدِ الشّوق كلّ أبجديّتي ..
كبُرت المسافةُ بيني وبين أبي، وباءت محاولات أمي بالفشل لتثنيني عن موقفي.. هي أيضًا كانت في دائرة الاتهام!! كيف تركَتْهُ يرحل؟
«وينن.. وين صواتن
وين وجوهن ..وينن
صار في وادي
بيني وبينن ..»
وذاتَ يومٍ، عدتُ من مدرستي لأجدَ باب البيت مفتوحًا على غير عادة.. وفي آخر الرواق حقيبة سوداء أعرفها.. ومن داخل الغرفة صوت اشتقته ..
رميتُ حزني.. وصرختُ بكلّ حبي ..
«أنا رجعتُ.. وما أحلى الرجوعَ إليَّ .. «
وما زلتُ إلى اليوم، كلّما سافرَ أبي، أحملُ رسائلي التي لم يقرأها وأضيفُ إليها سطرًا جديدًا من الخوف.. وأعدُّ الانتظار ..
«ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان
تركوا ضحكات ولادن منسية عالحيطان
تركوا لي المفاتيح
تركوا صوت الرّيح ..»
(يتبع)