المسيح ابن بلادي*
} محمد يوسف حمود**
لقد اعتادت القلوب والألسنة والأقلام والآذان، أن تؤمن وتقول وتَكتُب وتَسمع، أن آيات الرُسل الخالدين ومُعجزاتِهم وانتصاراتهم، ما كانت غيرَ وحيٍ يوحى ومشيئةٍ تُملى ونصرٍ يُحقَّق من عند الله… فاستقرّ هذا المُعتقد في أفئدة الناس وأدمغتهم إيمانًا عميقًا مُطَمْئنًا، يجرّد «الرسول» من عبقريّته الذاتيّة وإرادته الشخصيّة وأعماله البطوليّة، حتى باتت لكلّ رسولٍ عبارةٌ مطبوعةٌ في الخواطر معناها أنّه إنسانٌ عاديٌّ مُرسلٌ من لَدُنِ العناية الإلهيّة، يردِّدُ ما تُلَقِّنه إيّاه ويُنَفِّذ ما تأمره به، وأنّه لولا ذلك التّلقين وتلك الأوامر لما كان العبقريّ البطل العظيم!
والمعقول، أن الوحيَ العالي ليس سوى الإلهام الكونيّ، وأن الرُسلَ الهداةَ المتفوّقين ليسوا سوى عُظماء الكون وقادة الإنسان، وأنّه إذا كان لله فضلُ الإيحاء للنبيّين، فإن لهؤلاء فضلَ إثباتِ وجوده تعالى للبشر وإقناعهم بالإيمان بالمجهول… فالرسول إذًا ليس ذلك المُستوحي المُنفِّذ فحسب، بل هو الإنسان المتفوّق والزعيم المُصلح والقائد الباسل أيضًا.
وعلى هذا الضوء من حقيقة الرسول الإنسان نقول: إننا إذا تمثّلنا عُلماء الأرض قاطبةً قممًا بارزة في سلسلة جبال التاريخ، نرى ذروتين عاليتين في أجواء الروح والمجد، في سماء الدين وآفاق الدنيا، لا تُدانيهما ذروةٌ ولا يعلوهما علوٌّ، ألا وهما المنارتان المُشعّتان: عيسى المسيح والمُصطفى محمّد!
والذروة التي يقف العالم اليوم عند سَفحِها مُتطلِّعًا إليها ذاكرًا ميلادها ونشوءها وتساميها وخلودها، هي المسيحيّة رجلاً ودينًا وامتدادًا. وإذا كان لإنسان من بني الدنيا حقّ الوقوف والتطلع والذكرى، فلإنسانِ بلادِنا هذا الحقّ قبل سواه، بل له حقّ الصعودِ من السفحِ إلى الذروة، والاستواء هناك، على سِدْرَةِ السماء وشأوِ الكون، فخورًا معتدًّا، بأن هذه الذروة إنّما ارتفعت من أرضِنا، وتسامت في سمائنا، وبأن هذه المنارة إنّما أشعّت من مشرقِنا، بأضواء شمسِنا وسنا شطوطِنا وروعة رُبانا وجلال رحابنا…
وإذا كان على دنيا من الدُنى واجبُ الالتفات بالذّاكرة إلى يوم ميلاد المسيح، يوم الإيمان والوعي والتحرّر والانطلاق والحياة، فعلى دُنيانا المَشرقيّة أوّلاً، هذا الواجب… على القدس وعمّان وبيروت ودمشق وبغداد، قبل روما وباريس ولندن وواشنطن وموسكو واجب تقديس هذا اليوم وتخليدِه يومًا مشرقيًّا وعيدًا قوميًّا!
وهل أَدعى لتيهِنا واعتدادِنا من هذا الميلاد الذي هو ميلادُنا وهذا الرسول الذي هو رسولنا؟ وهل هناك اعتزازٌ يفوق اعتزازَ مشرِقِنا بكونه مكوِّن السيد المسيح وباعثه ومُطعِمه وكاسيه وموطنه ومُلهمه وناصره؟ أوليس من حقّ بلادِنا أن تشرئبَّ تعاليًا وتباهيًا على الدنيا كلّها، ونصف بني الدنيا اليوم، وفي كل صباح مساء، يتوجّهون بقلوبهم وأنظارهم خاضعين خاشعين مستسلمين لرسالة ابن بلادنا، إحدى رسالات الكنعانيّين والآراميّين والحثيّين الألى علّموا الإنسان بحرف ووحّدوا الكون بزورق، وعمّروا الأرض بإبداع؟!
أوليس من حقّنا القومي نحن بني المشرق أن نفاخر الشرق والغرب والشمال والجنوب ببيت لحم القرية الصغيرة، بل بمذود بقرة فيها، تَسجُد له عواصم الإمبراطوريّات والممالك والجمهوريّات والولايات والإمارات في المعمور، كما سَجَدَت العوالم من قبل لكهفٍ في أرواد وجبيل وصور، وحجرٍ في دمشق وبابل ونينوى وسواها من منائر العلم والعمل والتوحيد؟ ليس بدعًا إنْ عَبَدَ البشرُ روحَ الله في إنسانٍ منّا، فقديمًا عبدوا الله في حجرٍ من بلادِنا!
أيّها المشارقة المؤمنون!
إن السيدَ المسيح الذي تلقّينا عنه أقصى مبادئ التسامح والعفو والرحمة والوداعة والهِداية، وحفظناها وعلمنا بها وحدنا في ديارنا، قد أرادنا أيضًا أُباةً أعزّةً وأبطالاً صراعيّين، نمتشقُ القوّةَ سلاحًا ونصارعُ الباطلَ كفاحًا… لا، لا تقولوا أني أشتطّ وأبتدع، فمسيحُنا كان رسولَ المبادئ الإصلاحيّة ومعلّمَ الدروس الاجتماعيّة وزعيمَ النّهضة المشرقيّة وقائدَ الحملة البطوليّة في مكافحة الفساد والفوضى والشرور والآثام، أوبئة بني إسرائيل الفاسدين الشرّيرين الآثمين، التي كادت تمتدّ في أنحاء المشرق وتصيب المشارقة أجمعين… فانتصرَ هذا البطلُ البطل على تلك الأوبئة انتصارَ اللاهوت في السماء والناسوت على الأرض، بعد أن غضب على “بني إسرائيل” وشتّتهم ولعَنهم، فتشرّدوا عبيدًا يُساقون وتيهًا يتساقطون!
أجل أيّها المشارقة المؤمنون!
لقد كان مسيحنا بطلاً في إيمانه، وبطلاً في أقواله، وبطلاً في أفعاله… يصمد أمام الأعداء والمكابرين، تارةً بالعنف وطَورًا باللين، لتكوين المجتمع الأفضل والإنسان الأمثل في بلادنا!
فيا مسيحنا!
في قلوبنا منك وداعة الحَمَل، وفي أيدينا منك قوّة البطل… وأنت على جفوننا وفي خواطرنا رسولٌ إنسانيٌّ مشرقيٌّ عقائديٌّ وبطلٌ اجتماعيٌّ صراعيٌّ… وسيرتك كلّها، في ضمائرنا، منذ أن قلت كلمتك الأولى فوطِئتَ الأشواك صابرًا، إلى أن قلت كلمتك الأخيرة فحملت الإكليل ظافرًا… و”شعب إسرائيل” الذي كافحتَ أوبئته وقضيتَ على امتدادها باللعنة والتشتيت والعبوديّة والتيه، قد عاد اليوم إلى بلادك، ليعيث فيها فسادًا… بل لقد أعاده الذين يدّعون الإيمان بمسيحيّتك ويصلّون لوجهك!
فعُد إلينا يا مسيحنا، للقضاء على الفاسدين الفوضويّين الشريرّين الآثمين، ولطرد الكتبة والفريسيّين من بيتك الذي شئته أنت بيتًا للصلاة، وجعله نصارى الغرب مغارةً للّصوص!
* كتب هذا المقال في كانون الأول 1948.
** شاعر وأديب لبناني كبير راحل دُعي بشاعر الأناشيد.