التحقيق العدليّ
علّق اللبنانيون آمالاً كبار على التحقيق العدلي في ملف تفجير مرفأ بيروت لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة أولاً في قضيّة كلفت اللبنانيين الكثير في أموالهم وأرواحهم من جهة، ولكشف ملابسات بقيت غامضة حول كيف وصلت هذه السفينة ولماذا بقيت في لبنان وأنزلت حمولتها ومَن وراء بقاء هذه الحمولة رغم خطورتها وهل هناك عمل جرمي مدبّر يقف وراء ذلك ثم كيف تم تفجيرها هل هو القضاء والقدر بنتيجة الإهمال، وبالتالي توزيع مسؤوليات هذا الإهمال ومحاكمة المسؤولين عنه بمقدار مسؤولياتهم.
وقع التحقيق في غير موقعه الآمال التي بنيت عليه فهو اليوم متعثّر إذا كان قياس الأمور بنتائجها ووقع في مساره بالاستنساب والانتقائية في توجيه الاتهام للمسؤولين السياسيين بصورة لم يفهم معها الناس كيف يتم الادعاء على رئيس حكومة من دون أي من وزراء حكومته وكيف يُدّعى على وزراء في حكومات لم يتمّ الادعاء على رؤسائها، فطالما أن المسؤوليّة سياسية ويمكن أن تطال رئيس حكومة، فيجب أن تمر بوزراء في حكومته، وطالما مرّت بوزراء فيجب أن تصل لرؤسائهم، وبدا الانتقاء لفريق سياسي واحد لافتاً للنظر ومستفزاً لهذا الفريق، هذا بالإضافة لما أثاره الادعاء من سجال دستوريّ حول الصلاحيات فتح باباً جديداً يضعف مسار التحقيق وينال من هيبته والوحدة من حوله.
يعتقد الكثيرون من متابعي التحقيق أن الثغرات كان يمكن تفاديها بالسير بتسلسل هو الطبيعيّ في الإجابة عن الأسئلة حول مَن جاء بالسفينة ومن حفظ حمولتها ومَن تحمّل مسؤولية بقائها، وهنا يقع مسؤولون قضائيّون وعسكريّون في المقدمة والتحقيق معهم هو الذي يكشف الطبيعة الجرميّة من عدمها لبقاء الحمولة المتفجّرة، كما يكشف وجود أو عدم وجود تورط سياسيّ وراء هؤلاء القضاة والعسكريين الذي تجنبهم التحقيق بصورة غير موفقة زادت من التساؤلات.
يعتقد كثيرون أيضاً أن التوجه للمسؤولين السياسيين كان في جانب منه سياسي إما تلبية لمناخ شعبويّ يريد رؤوساً كبيرة أو تحت تأثير نصائح نتجت عن التنسيق القضائي مع التحقيق الأجنبي أرادت استعمال التحقيق اللبناني لإيصال رسائل سياسية. وفي هذا السياق وقع الاختيار على مَن طالتهم العقوبات الأميركية وعلى رئيس الحكومة الذي عاند مراراً النصائح الأميركية والفرنسية وصولاً لحد الصدام.
الحريصون على التحقيق وعلى القضاء من خلفه لا يرون مصلحة بالتوأمة بين مسار القضاء ودور نقابة المحامين، كما لا يرون مصلحة بتحويل القضاء الى طرف في النزاع السياسيّ ويرون ان استقلال القضاء لا يتحقق بمعارك مفتعلة مع الوسط السياسي، بل بالابتعاد عن أي اعتبار سياسي، ويسألون لو توجّه المحقق العدلي بلائحة اتهاماته لكل من وردت الإشارة إليهم في رسالته الى المجلس النيابي مرفقة بمطالعة اتهاميّة مفصلة، وطلب التحرك من مجلس النواب وتلكأ المجلس، فعندها سيكون الرأي العام كله مع القضاء في مواجهة السياسيين، أما الآن فقد انقسم الناس وضاعت الفرصة.
الطريق الوحيد لرد الاعتبار للقضاء والتحقيق يبدأ اليوم من خريطة طريق يرسمها مجلس القضاء الأعلى وفقاً لسلم الأولويّات الذي تستدعيه القضية وكشف الحقيقة فيها من جهة، والتخاطب على أساسها مع السلطات وفقاً لنصوص الدستور من جهة ثانية.