من حقّ طرابلس أن أردّ لها الجميل
يكتبها الياس عشّي
ما إن تبدأ إيقاعات الشتوة الأولى حتّى تستيقظَ في مخيّلتي كلُّ الكلمات الجميلة التي تليق بمكان تتغيّر فيه رائحة التراب، وشكل السماء، ولون الأشجار، وصوت العصافير.
وطرابلس، يا أصدقائي، هي المكان… هي الشجرة التي يتفيّأ في ظلّها كلُّ الناس. هكذا عرفتها، وهكذا ستبقى، لأنّ المدن كالبشر إذا «شبّتْ على شيء شابت عليه». قد تهبّ عاصفة، وتتساقط بعض من أوراق هذه الباسقة المرفوعة الرأس، أو تتشلّع بعض أغصانها، ولكنّ جذورها المتشبّثة بالأرض، العالقة برائحة التراب، تمنعها من مغادرة المكان، بل ترفدها بأوراق أكثر يانعة، وأغصان أشدَّ صلابةً، وبعصافيرَ تأتيها من كلّ مكان محتفلةً بإبداعاتها التي لا تنتهي.
ومن حقّ طرابلس المثلّثة الأبعاد، أن تفاخر بعلمائها، وبمآذنها، وبرنين أجراسها؛ وأن تفاخر أكثر بقدرتها على تخطّي كلّ المؤامرات التي حيكت لتدمير العيش فيها، وتحويله من صيغة «عيش» إلى صيغة «تعايش».
ومن حقّ طرابلس عليّ أن أردّ لها التحية بأفضلَ منها، فمدارسها فتحت لي أبوابها فبدأت رحلة التعليم من أطرافها ثَمّ منها، وأبناؤها مرّوا في صفوفي فأعطيتها ما أعرف وأعطوني سلّة ملأى بالمحبة والوفاء، ومقاهيها درّبتني على الكتابة، فما من كلمة كتبتها إلّا وكان مخاضها على أرصفتها، وما من صحيفة طرابلسية إلّا وأفسحت لي في المجال كي أنشر فيها… حتى ولو كانت قناعاتها غير قناعاتي، وقاعاتها ومنتدياتها الثقافية شرعت لي أبوابها محاضراً حيناً، ومشاركاً في الاحتفال بولادة كتاب جديد حيناً آخر، وموقّعاً لمؤلفاتي مرّات عديدة…
مدينةَ طرابلس… لكِ عرفاني بالجميل، يكفي أنك كنت، بالنسبة لي، لاذقيّةَ أخرى، فما شعرت يوماً بالغربة وأنا أتفيأ ظلالك.