عام 2020 انتصار للسياسة الخارجية الروسيّة وذراعها الدبلوماسيّ..
} سماهر الخطيب
تُعتبر السياسة الخارجية الروسية سياسة مرنة تقوم على مواجهة التحدّيات بسلاسة ومرونة في مقابل تحقيق استراتيجيتها عبر تغيير الأدوات لتحقيق الأهداف وقد تركّزت أهداف الأنشطة السياسيّة الخارجية لروسيا في العام المنصرم على إمكانات التعاون الدولي لصالح ضمان الأمن القومي، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وكذلك تعزيز المواقف الساعية لحل المشكلات العالميّة والإقليميّة الملحّة التي تلبي المصالح الروسية.
واقترحت روسيا أجندة إيجابية موحّدة تحمل في جوهرها أهداف الاستقرار العالمي والقدرة على التنبؤ، وتعزيز الدور المركزي لهيئة الأمم المتحدة بصفتها المنسّق الرئيسي للسياسة الدولية. كما دعت الشركاء إلى «التخلي عن ألعاب الخيارات الصفريّة والمعايير المزدوجة لصالح الحوار المفتوح والصادق».
وبمتابعة النشاط الدبلوماسي المكثف الذي قامت به الخارجية الروسية في آخر أسبوعين من العام الماضي، والذي تجلّى في استقبال وزراء خارجية كل من سورية والإمارات وقطر وليبيا، نجد أنه كان يهدف إلى تحقيق أكبر تقدّم ممكن، والبناء على جميع الجهود السابقة من جميع الأطراف، استعداداً للولوج إلى السنة الجديدة بأرضية تساعد على المضي قدماً مطلع هذا العام نحو حل الأزمات العالقة في المنطقة، بالتزامن مع تسلّم إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، مهامه الرئاسية في البيت الأبيض هذا الشهر، بعد أربعة أعوام من السياسة التخريبية التي اتبعتها إدارة الرئيس ترامب في العلاقات الدولية، والتي كانت انعكاساتها كارثية على شعوب الشرق الأوسط والعالم العربي.
ولفهم الدبلوماسية الروسية لا بدّ من التمييز بين مفاهيم استراتيجية السياسة الدولية والسياسة الدولية والدبلوماسية. فالاستراتيجية هي الأهداف البعيدة التي تريد السياسة الدولية بلوغها والتي تُرسم على أساسها سياسة الدول وتتحرك بموجبها الدبلوماسية، بالتالي تكون السياسة هي مجموع المبادئ التي تحكم حركة الدبلوماسية، لتصبح الدبلوماسية كمفهوم هي مجموع الأداء التكتيكي للأدوات السياسية من (مؤتمرات، مفاوضات، اتصالات، بيانات، علاقات، استثمار حروب، مواقف) أي استثمار هذه الأدوات الدبلوماسية من أجل تحقيق السياسة.
بالنسبة لروسيا فإنّ استراتيجيتها تتلخص في إنتاج نظام متعدد الأقطاب ورد الاعتبار لدور الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتعزيز وتنمية وتوسيع انتشار مفهوم الدولة الوطنية المستقلة.
بالتالي فإن سياسة روسيا الخارجية في العام الذي ودّعناه، كانت كما عهدناها دائماً، مبدئية وشفافة وواضحة، وترتكز على احترام قرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن في التعامل مع حل جميع الأزمات الإقليمية والدولية، وهو ما أكد عليه بيان الخارجية الروسية، والذي نشرته الخارجية الروسية في موقعها على الإنترنت تحت عنوان «النتائج الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية لعام 2020».
ورغم جميع المحاولات الأخرى التي تهدف إلى تشويه دور روسيا السياسي والدبلوماسي، وجميع ما يزعمونه من «صفقات جانبيّة» في سورية أو ليبيا، إلا أنها مزاعم عارية عن الصحة، ولا أساس لها من المنطق أو الحقيقة، بل تهدف إلى التخريب وخدمة أهداف أطراف دولية أخرى، تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، وتأجيج الصراعات والأزمات في الشرق الأوسط والعالم العربي، تنفيذاً لمآرب أخرى على حساب الكوارث التي يعاني منها الملايين من العرب في الشرق الأوسط من جوع وفقر ومرض وجهل وتشتت.
فقد قام الدبلوماسيون الروس بأكثر من ألفي لقاء خلال السنوات الخمس الأخيرة مع ممثلي الأطراف السورية المختلفة ومئات اللقاءات مع الأطراف الليبية والفلسطينية واللبنانية واليمنية، سعياً للمساهمة في تقريب وجهات النظر، وتنفيذ قرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بكل دولة على حدة، وإنجاح مساعي مبعوثي الهيئة إلى هذه الدول.
وإذا تابعنا هذه النشاطات، سنرى بكل وضوح كيف أنها لم تكن يوماً منحازة إلى طرف على حساب طرف آخر، بل كانت تضع المصلحة الوطنية لشعوب هذه البلدان على رأس أولوياتها، وتستند دوماً إلى احترام سيادة الدول ووحدة الأراضي وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
وتبدو الدعوات من بعض السياسيين لأن تلعب روسيا دوراً أكثر فعالية في حسم النزاع في سورية أو ليبيا أو لبنان أمراً غريباً، لأنها تتجاهل حقيقة أن وقف إطلاق النار في سورية وليبيا قد تم بفضل روسيا بالدرجة الأولى، وبفضل وقوفها على المسافة نفسها وعلى نحو متوازن من جميع الأطراف السورية والليبية واللبنانية. وفي ضوء هذا الوضع من التهدئة الراهنة، تصبح المسؤولية الأولى والأخيرة على عاتق السوريين والليبيين واللبنانيين أنفسهم. وقد وضعت هيئة الأمم المتحدة خارطة طريق لكل دولة على حدة، ولن يصبح ممكناً تنفيذ هذه الخطط سوى بالإرادة السياسية المستقلة لهذه الدول، والتي يمكنها أن تتحدى كل العراقيل والضغوط الخارجية التي تحاول إعاقتها.
وقد أصبحت الدبلوماسية الروسية تدريجياً أداة لبناء شراكة فاعلة وملموسة وإرساء قواعد لحوار أكثر فائدة بعيداً عن محاولة تشكيل جبهات معارضة له. إذ تنطلق موسكو في علاقاتها الدولية من معرفة عميقة بثقافة وتاريخ شركائها. وتسعى إلى ترتيب شؤون العالم حول قواعد يتم وضعها بشكل مشترك وتحظى بقبول الجميع على أساس القانون الدولي. كما تؤمن موسكو بالدبلوماسية قبل القوة. وغالباً ما نراها تنخرط في مفاوضات طويلة، ليس الهدف منها تقاسم المصالح من خلال إبرام المعاهدات، بل إنضاج وجهات نظر مختلف الأطراف. وهذا ما رأيناه في مناقشات سوتشي والمحادثات على نسق أستانا وتوقيع اتفاق السلام في إقليم قره باغ..
لقد فرضت روسيا نفسها لاعباً أساسياً في منطقة الشرق الأوسط. وشهدت علاقاتها نمواً ملحوظاً مع كل من مصر والسعودية وإيران وحتى تركيا بالإضافة إلى دول أخرى في المنطقة.
واتسمت السياسة الروسية في المنطقة بالاتصال مع جميع الأطراف الفاعلة، وهذا يتيح لها القيام بدور فعال في الوساطة بين مختلف الأطراف. كذلك تسعى السياسة الروسية إلى تبني الحلول البراغماتيّة، فهي لا تريد فرض نظام أيديولوجي معين، ولا نشر مبادئ مجتمعية، بل تسعى في علاقاتها إلى تحقيق المصالح المشتركة.
إن نظرة إلى الصورة الكلية في المشهد الإقليمي تشير إلى نجاح روسي في إحداث اختراق كبير في المنطقة، فبالنسبة للروس أدت إدارتهم للأزمة السورية إلى تثبيت أجندتهم في دعم الدولة السورية وإضعاف المعارضة، وإجلاس الجميع على طاولة المفاوضات سلماً أو حرباً، في مقابل فشل أميركي في تحقيق حلّ للصراعات في الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا وفلسطين.
بالتالي بات الفارق شاسعاً بين السياستين الروسية والأميركية في الساحة الدولية، وأصبح هذا الفارق ملموساً وواضحاً لشعوب العالم، فلم تعُد تنطلي الأكاذيب الأميركية حول «الخطر الروسي»، كما لم تعُد الشعوب ساذجة لتصدق تلك المزاعم المهرطقة والتي تنطوي على خوف أميركي من فقدان الزعامة العالمية وتحوّلها إلى توازن عالمي بحيث تتوزّع هذه الزعامة بين الأقطاب العالمية ليعود العالم متعدّد الأقطاب تحكمه الشرعة الدولية وليست الأميركية والقانون الدولي وليس المصلحة الأميركية التي تصيغ القانون وفق أهوائها، وهذا ما لمسته ورأته الشعوب قبل حكامها، ولذا تنشد هذه الشعوب وحكامها الصداقة الروسية والتقارب الروسي..
في المحصلة من الأهمية زيادة الفهم والتواصل مع الدبلوماسية الروسية، وتراكم العمل السياسي والاستفادة من توجهاتها الممانعة للنفوذ الأميركي.