عام على الجريمة… أميركا حصدت خلاف ما توقَّعت
العميد د. أمين محمد حطيط*
في معرض إعلانه بوقاحة ارتكاب جريمة اغتيال اللواء قاسم سليماني ادّعى ترامب أنّ الأميركيين باتوا أكثر أماناً في العالم، وكان يقصد أنّ الخطر الذي يهدّد الوجود والهيمنة الأميركيين في الشرق الأوسط قد زال تقريباً بغياب الشهيد الذي تراه أميركا و«إسرائيل» أحد ثلاثة يصنّفون في القاموس الاستعماري الأكثر خطراً على الاحتلال وعلى المشروع الصهيوأميركي في المنطقة باعتبارهم قادة مميّزين في محور المقاومة الذي هزم «إسرائيل» في لبنان مرتين وأسقط مشروع داعش وهزم الإرهاب الأميركي في كلّ من العراق وسورية كما ولبنان. والآن وبعد سنة على ارتكاب الجريمة يطرح السؤال هل أميركا حققت ما تريد؟
لقد أرادت أميركا من اغتيال الشهيد قاسم سليماني تحقيق هدفين أساسيين الأول قطع التواصل بين جبهات ومكوّنات محور المقاومة الممتدة من اليمن جنوباً الى إيران شمالاً مروراً بفلسطين ولبنان وسورية والعراق، والقضاء على الفكرة التي عمل عليها الشهيد سليماني وهي وحدة مسرح عمليات محور المقاومة وتماسكه مع تعدّد الجبهات فيه، وتمكين هذه الجبهات من ممارسة الإسناد المتبادل والأداء الجمعي المشترك الذي يظهر تناسقها وسيرها، وفقاً لإيقاع يضبطه ضابط إيقاع فذ هو الشهيد سليماني، وتصوّرت أميركا أنّ غياب ضابط الإيقاع ينهي التماسك والتناسق والعمل الموحّد ويفكك أو يبعثر المحور فيسهل تدميره، أما الهدف الثاني الذي رمت إليه أميركا من جريمتها فهو إدخال محور المقاومة ومكوناته في حالة من الخوف والاضطراب والجمود ومنع إيران من تقديم الدعم له والحؤول دون تعزيز تلك الجبهات المقاومة لمدة من الزمن تحتاجها أميركا لإعادة تقييم الموقف بعد فشل «داعش» في تحقيق الأهداف التي من أجلها أنشأتها أميركا. فأين أميركا من أهدافها اليوم؟
مَن يدقق في المشهد اليوم يقف على حقائق لا تستطيع أميركا و«إسرائيل» وكلّ مَن يسير في ركبهم ولا يستطيع أحد منهم حجبها أو إخفاءها ويكفي تقديم النماذج التالية منها:
1 ـ بعد الاغتيال رفعت إيران في مواجهة الجريمة شعار «إخراج أميركا من المنطقة» واعتبرته الردّ الاستراتيجي الحقيقي المناسب في مواجهة الجريمة، وفي حين كانت أميركا قد توسّلت الإرهاب واعتمدت استراتيجية القوة الناعمة العمياء وقادت حرباً على سورية والعراق وإيران من نوع حروب الجيل الرابع التي سخرت لتنفيذها جماعات إرهابية تجاوز عديدها الـ 400 ألف إرهابي خلال السنوات العشر الماضية، وظنّت بأنّ هذه الجماعات ستصنع لها البيئة المناسبة لاستعمار المنطقة بالحرب البديلة، فقد وجدت أميركا نفسها وبعد سنة فقط أمام قوى تعتمد استراتيجية «تطهير المنطقة من الإرهاب ومن الاحتلال الأميركي الذي يرعاه»، وما القرار الذي اتخذه البرلمان العراقي والموقف الإيراني المعلن بهذا الصدد إلا أول الطريق التي ستسلكها قوى عبرت جماهير العراق عن نموذج منها عندما خرجت بعشرات الآلاف الى طريق مطار بغداد حيث ارتكبت الجريمة الأميركية.
2 ـ تلقت أميركا في «عين الأسد» وفي إطار الردّ الإيراني العملاني على الجريمة صفعة تتصل مباشرة بالهيبة العسكرية التي بنتها منذ الحرب العالمية الثانية ويعرف أهل الاختصاص مدى أهمية الهيبة العسكرية في تكوين المناعة والحصانة الدفاعية لأيّ جيش كما وتأثيرها على فعالية القدرات العسكرية له التي تصل به أن تحققت بمستوى رفيع الى حدّ الانتصار بالمعركة قبل خوضها نتيجة الرعب الذي يكون قد زرعه في النفوس قبل وصوله. فأميركا تحكم العالم بهيبتها العسكرية وصورة الرعب التي زرعتها في الذهن العالمي يوم ألقت القنابل النووية على اليابان لا زالت تفعل فعلها وتركن أميركا إليها. لكن إيران وفي ردّها على جريمة الاغتيال كسرت هذه النمطية وتجاوزت هذه الهيبة وقصفت «عين الأسد» حيث القوات الأميركية من دون أن تعبأ بما سيكون عليه ردّ الفعل الأميركي، وهذه مسألة سيُبنى عليها من قبل آخرين من شأنها أن تضع حداً لمقولة «إنّ أحداً من الدول لا يجرؤ على مواجهة أميركا». وبعد أن كانت المقاومات المتسترة تنزل في أميركا الضربات المؤلمة وتخرجها من مناطق الاحتلال، جاء دور الدول وفي الطليعة إيران لتستبيح تلك الهيبة.
3 ـ أظهر محور المقاومة خلال السنة التي أعقبت الاغتيال تماسكاً وإرادة على ربط الجبهات وتساندها بشكل لم يكن مسبوقاً وبات قادة الجبهات وبشكل علني يذكرون صراحة أساليب حصولهم على السلاح وتبادل الخبرات ونقلها من جبهة إلى جبهة، كما يؤكدون النية على العمل المشترك في الحرب الشاملة المرتقبة في يوم ما، حرب يشارك فيها محور المقاومة بكلّ مكوّناته ويفتح كلّ جبهاته دفعة واحدة واضعاً حداً نهائياً لفكرة استفراد جبهة وتثبيت الأخريات كما هي استراتيجية «إسرائيل» التقليديّة. ولهذا بات مهماً أن نسمع مثلاً انّ صواريخ الكورنيت نقلت من سورية الى غزة عبر مسعى لبناني، وانّ صواريخ اليمن ستوجه الى «إسرائيل»، وانّ القواعد الأميركيّة ستقصف من أيّ مكان من مسرح عمليات المقاومة.
4 ـ تمكن محور المقاومة من تأمين التواصل البري شبه الآمن من إيران الى لبنان عبر سورية والعراق، ورغم أنّ أميركا و«إسرائيل» تحاولان عبر الطيران النفاث أو المسيّر أو عبر الخلايا الإرهابيّة التي حركتها في الجزيرة السورية والأنبار العراقية التأثير على هذا الطريق فضلاً عن استمرار احتلال أميركا لقاعدة التنف السورية لقطع الطريق من بغداد الى دمشق، إلا أنّ قوافل اللوجستية العسكرية التابعة لمحور المقاومة تتقن اختيار الطرق والتسرّب والتحرك بعيداً عن المخاطر التي تشكلها أميركا و«إسرائيل» والإرهابيّون، ويكفي ان نسمع من السيد حسن نصرالله أنه في العام الفائت تضاعف عدد الصواريخ الدقيقة التي تملكها المقاومة في لبنان لنعرف مدى فشل جبهة العدوان في محاصرة المقاومة.
5 ـ فشلت أميركا في كلّ ما قامت به من خلال سياسة الضغوط القصوى والحرب النفسية العالية الشدة، فشلت في تحقيق أيّ من أهدافها في مواجهة محور المقاومة عامة وإيران وسورية خاصة، حيث إنها لم تستطع انتزاع أيّ تنازل او تفرض أيّ تراجع في أيّ ميدان كان. ويعتبر هذا الأمر بالغ الأهمية على صعيد المواجهة والحرب الشاملة التي لا يسعى إليها محور المقاومة اليوم، ولكنه لا يخشاها في حين أنّ أميركا و«إسرائيل» باتتا في موقع يحسب ألف حساب لمسألة الذهاب للحرب، ففي حين كان قرار الحرب لديهما قراراً يتخذ بإرادة منفردة حرة لا تراعي ظرفاً أو شرطاً باتتا اليوم تنظران إلى قدرات محور المقاومة وتتخذان القرار بناء لما هو عليه من قوة ما فرض وجود معادلة ردع استراتيجي خضعت لها أميركا بعد «إسرائيل» ولهذا استبعدنا ذهاب ترامب إلى الحرب رغم جنونه بسبب خسارته الانتخابات.
وفي الخلاصة، نقول إنّ ترامب أراد من جريمته ان يسبغ الأمن على الاحتلال الأميركي في المنطقة بتفكيك محور المقاومة والإجهاز على مقاومات المنطقة، لكننا نرى اليوم أنّ المحور بات أشدّ تماسكاً وقوة والاحتلال في مأزق أشدّ خطورة والجريمة أعطت نتائج عكسيّة خلاف لما رمى إليه القتلة المجرمون.
*أستاذ جامعي – باحث استراتيجي.