اللغة العربيّة وسيميائيّة الأخطاء بين المرئيّ والمسموع
اللغة إذا وقعت على أكبـادنا كانت لنا بردًا على الأكباد
وتظل رابطـــة تؤلّف بيننا فهي الرجاء للناطقين بالضاد
حليم دموس*
شَغَلت العربية أهلها، أُفْتِنوا بها وعشقوها، وهبتهم روحَها فمنحوها رعايتهم واهتمامهم. اعتنوا بها، فشذّبوها من كل ما هو حوشي ومقعر، زيّنوها بالبلاغة مضافًا إليها الخبر والإنشاء، ضبطوا حروفها صاغوا نحوها، ألبسوها أجمل حُلَلِها وأجلّها، فأخرجوها للناس خيرَ لغة.
ولا ينسى المرء في هذا السياق فضلَ الإسلام على اللغة العربيّة، إذ أضاف إليها الكثيرَ من المفردات والتعابير، وقد سلك بها مع الحديث النبويّ الشريف «في البلاغة مذاهب ينقطع بها كلُّ بليغ»(2)، بعد ذلك كان فتح الممالك والأمصار كبلاد فارس والرّوم، ما زاد عليها الكثير من المعاني العلميّة أو المدنيّة وفي كل العلوم من فلسفة وسياسة إلى إدارة وفقه وأصول، فجغرافيا، وعلم الهيئة والسِيرة… وهكذا نرى أنّ الإسلام خطا باللغة العربية خطوات مهمة وكبيرة في تعزيز موقعها ومكانتها.
وعلى الرّغم من كل ما تعرّضت له الأمّة العربيّة من انتكاسات؛ وصدمات إلا أنّ ذلك لم يثن العرب عن متابعة طريقهم في المحافظة على لغتهم؛ ورَفْدِها بكل ما هو جديد في كل حقبة زمنية، فكتبوا بها في مرحلة متقدمة شتى علومهم من علم القيافة والأَثر إلى علم الحديث، والأنساب ومن ثَمَّ علم الجبر والهندسة فالكيمياء والطبّ والفلك، وعلم المثلثات، والحِيل النّافعة أو (الميكانيكا)، كما أنّهم ابتكروا المنهج العلميّ في أبحاثهم وكتاباتهم، وكلّ ذلك كان باللغة العربية وقد كانت طيعة لهم.
نجد في اللغة العربيّة أسماء وأسماء لمواد علميّة وأدبيّة وتربويّة واجتماعيّة وثقافيّة…، زد على ذلك مفرداتها الفصيحة «فليس في كلماتها الجارية في الاستعمال ما يثقل على اللسان أو ينبو على السّمع»(3) وهي جارية في الاستعمال مرنة، واسعة شاملة غزيرة متسعة في مذاهب بيانها، تنساق مع علمائها في التّعبير عن حاجات أبنائها في علومهم كافة.
وما أُطلق عليه عصر الأنوار في البلاد العربيّة بين القرن السابع والسادس عشر الميلادي، إذ كانت النهضة العربية الكبرى وفي مختلف العلوم والفنون، إذ كانت تنعدم الأميّة عند العرب، كان الأوروبيون في هذه الحقبة يغرقون في عتمتهم الثقافية، وتبين أنّ نسبة الأميّة عندهم مرتفعة أكثر منها عند العرب.
إلى أن انقلبتِ الموازين ودخل العرب عصر الانحطاط، وقد برزت في هذه المرحلة سياسة الانفتاح على الغرب، والتي لم تكن سياسيّة أو اقتصاديّة فحسب، لا بل أيضًا ثقافيّة، ما أدى إلى تغيرات هائلة على المستوى الاجتماعيّ الأمر الذي» زاد من ارتباط العالم العربي بالغرب وبدأ تأثير ذلك كلّه في نظرة العرب إلى ثقافتهم»(4)، فطفا على السّطح الجيل الذي يحب اللغة الإنكليزيّة، فيضعنا أمام مجموعة من العلامات الدالة من خلال تمسّكه باللغة الأجنبيّة؛ وكل ما هو على صلة بهذه الثقافة، فيترك الالتزام بلغته سليمة، ويروح يحاكي مظاهر الحياة الأجنبية، وصار همّه مواكبة التطورات المقبلة كلها، وبات يعتقد أنّها الحياة الأفضل والأمثل، ويتباهى بما يفعله.
ذهب أبناء هذا الجيل، في حقبة متقدّمة إلى الخجل من التخاطب بلغتهم الأم لأنّها أقل تطورًا وليست لغة حضارة، وهي جامدة لا تستطيعُ أن تستوعبَ في طياتها المفرداتِ المقبلةَ من الغرب، وراحوا يخلطون اللغة العربية بالكثير من المفردات الأجنبيّة وعلى سبيل المثال (بونجور، صباح الخير/ آي ونت تو درنغ، أريد أن أشرب/ آي لوف يو/ يا غالي) وغيرها الكثير من مصطلحات خطابهم اليومي.
وهنا أخذ الإِعراب يصعب ويثقل على أبناء العربية، وقد فسدت طبائع الناس، وفشا الخطأ وتحوّل المجتمع العربي الخالص إلى مجتمع مضخّم بلغات شتى؛ خصوصًا في الحواضر، ووصل الأمر إلى أنّ بعض العرب أخذ يُنكر الإعراب، ويدعو إلى تخفيفه وتسهيله حتى في المناهج الدّراسية؛ علمًا أنّ اللغة العربية ليست اللغة الوحيدة التي تنهض على قواعد وضوابط، وعلى الرّغم من ذلك لم نسمع من أبناء اللغات الأخرى مَن يطالب بما يطالب به أبناؤنا ومثقفونا.
أضف إلى ذلك، ارتباط سوق العمل ارتباطًا وثيقًا باللغة الإنكليزيّة، فتحيل هذه الإشارة إلى علامات دالة أخرى، تحمل مضامينها وتبين أن الارتباط بالخارج؛ ساهم في توجّه أهلنا وأبنائنا نحو لغة أجنبية تؤمِّن لهم المستقبل الثقافيّ وربما الاقتصاديّ، ما زاد في تعلقهم بها.
وازداد الأمر تعقيدًا مع السياسات الاقتصاديّة المتبعة في بعض البلدان العربيّة، ما ساعد في الغلو في الركض خلف الثقافة الغربيّة، وتنامى استخدام اللغة الأجنبيّة في المؤسسات العامة والخاصة على حدّ سواء وفي وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة، وفي البنوك والشّركات الكبرى.
وهكذا ارتمت هذه الأجيال بملء إرادتها في أحضان الثقافة الغربيّة، وهي تعيش حلم اليقظة، الذي يُحيل على علامة زمكانيّة، فالمكان هو أحضان الخارج الذي يدلّ على ركض العالم العربي بأسره، خلف تحصيل الحقوق العلمية، «والزّمان هو المستقبل حيث الوعد بتحقيق الأهداف، التي تُحيل بدورها على دلالة أنّها تتأرجح ما بين الفشل والتحقق»(5).
ما أدى إلى ضعف الشّعور بالانتماء إلى اللغة العربيّة، وضعف الثّقة بها، وبالتّالي تَزَعْزُع الانتماء إلى الأوطان العربيّة، وإلى الهوية العربية، ولم تعُدْ معها اللغةُ العربيةُ «جزءًا لا يتجزّأ من السيادة والحفاظ على اللغة هو حماية لهذه السيادة»(6) الأمر الذي يشير إلى أنّ اللغة تعاني مشكلة كبيرة، ألا وهي المحافظة على خصوصيتها وضمان استمرارها وألقها وتميّزها بتفوّقها اللغوي، وفي أن تبقى لغة الحكّام والتجار، والإدارة، والدّين والأدب والشعر والنقد.
في المرحلة الراهنة «تتفاقم الأخطار حول اللغة العربيّة بحسبانها وعاءً للثقافة العربية، وللحضارة الإسلامية، وهي أخطارٌ مقبلة من هيمنة النّظام العالميّ الّذي يرفض صياغة عالم جديد متعدد الأقطاب والمراكز والثّقافات»(7)، وهو يسعى إلى فرض اللغة الأقوى وذلك بحكم الهيمنة السياسيّة، والسيطرة العلميّة والتَقَنِّية والاقتصاديّة؛ ما يفرض علينا التّعامل بفطنة وذكاء مع هذه الأخطار، بما قد يرفدنا ويدعّم خطواتنا في المحافظة على لغتنا رمز هويتنا وبقائنا.
في ظل الهجمة الشّرسة على اللغة العربيّة، كلّنا مسؤول عن تراجع دورها في المؤسسات والمدارس، ولكل دورُه في تشويه الحقائق، والمساهمة مع الغزو الثقافيّ في قلب المفاهيم بما يخدم مشروع الهيمنة، وهنا يحضرنا رأي ابن حزم الذي يربط بين سقوط اللغة، وسقوط الدّولة السياسيّ والعسكريّ، ويرى أنّ ما يفيد لغةَ الأمّة وعلومَها وأخبارَها هو قوّة دولتها، ونراه محقًا في حكمه؛ فالأمة «التي تقع تحت سلطان من لا ينطق بلسانها… إنّ لغتَها تصير إلى انحطاط وضياع» (8)، ما يؤكد لنا أنّ المجتمع هو الذي يطوّر اللغة، ويعمل بالتالي على تجديدها ومنحها الرّوح، وهو الذي يأخذ حياتها ويمكنه أن يعيدَها إليها.
في المستوى الإعلاميّ لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فالأخطاء اللغويّة والنّحويّة التي نعثر عليها في بعض المجلات والجرائد، أو التي نسمعها يوميًا في نشرات الأخبار ومن المحطات الإذاعيّة حدّث ولا حرج، حتى أنّ الكثير من الإعلاميين يخلطون بين الحروف ومخارجها فيتساوى عندهم حرف ( س= ث/ د= ض/ ق = ك/ ذ= ز) إلى آخر القائمة.
كما يكثر استخدامهم كلمات (هكذا تصرّفات، أو هكذا قرار)، والصّحيح (تصرفات كهذه، أو قرار كهذا)، أو (أهدى رئيس التحرير المحرر هدية) والصّحيح (أهدى رئيس التحرير إلى المحرّر هدية) لأنّ الفعل أهدى يتعدّى بحرف الجر؛ أمّا إذا تعدى مباشرة فإنّ المعنى يتغير ليصبح بمعنى الهداية مقابل الضلال، ومنها أيضًا (الأمر ملفت للغاية) أمّا الصواب منه فهو (الأمر لافت للغاية) على وزن اسم الفاعل وقس على ذلك الكثير؛ ما تقدّم يُحيلنا على إشارة دالة على عمق الهوة بين اللغة العربية اليوم وبين أبنائها وفي مستويات مختلفة، ما يُحيل على إشارات أخرى ضمنية توجب دقّ ناقوس الخطر، والاستدارة نحو لغتنا لتبقى لنا هويتنا وقوميّتنا.
ونرى أنّ هذه الأخطاءَ وغيرَها تُبعِد الجمال من اللغة العربية وتُنفّر منها؛ كما أنّ بعضها يصبح عصيًّا على الفهم؛ وفي بعض الأحيان نحتاج إلى ترجمان أو محلل لغوي أو نَحَويٍّ حتى نستطيعَ أن نلتقطَ ما أراد قولَه، وما ورد أعلاه ليس إلا القليل من كثير في عالم الإعلام ذلك أنّ العديد من الإعلاميين ينصب فاعلًا، ويجرّ مفعولًا به، والمحطة لا تكلّف نفسها الاستعانة بمدقق لُغّوي، أو بتدريب طاقمها الإعلامي على اللغة العربية ومن ثَمَّ إخضاعه لدورات تقوية، تمكنّه من لغته وتبعده من اللحن والخطأ، والشواهد على ذلك كثيرة والقائمة تطول.
أمّا في المستوى الاجتماعيّ أو الثّقافيّ، فنسمع من بعض المسؤولين في المدارس استخدام بعض التعابير الخاطئة كأن يعلنوا مثلًا– أنّ على الطلاب التواجد في المكان المحدد – وهذا التعبير خاطئ لأن كلمة تواجد تعني (الوجد) أي الحبّ الشّديد. وممّا زاد في الطّين، بِلّة ما يُسمّى اليوم بلغة «النت» وعصر العولمة الذي شقَّ طريقه إلى بيوتنا وجامعاتنا ومدارسنا وتبين لنا أنّ المعلوماتية «لا ترحم ولا تشفق، ومن لم يحصّن نفسه بالعلم والمعرفة والنتاج الفكري والأدبي فإنّه سيذوب لا محال في الآخر» (9)، ولأنّنا كأمّة عربيّة تقف عاجزة أمام علامات الضّعف في البحث العلميّ والإنتاج المعرفيّ، ولأنّ السّياسات الحكوميّة الثّقافية غائبة عن السّاحة التّربويّة، أضف إلى ذلك سيطرة اللّغة الأجنبيّة على مناهجنا، وقعنا في المحظور؛ وهنا على الحكومات أن تعلن دوالها في السياسة الثقافيّة، فتأخذ دورها في التّشجيع على المطالعة باللغة العربيّة، وتحفيز المدارس على تدريس العلوم في المراحل الثّانوية باللغة العربيّة، وتعيد النظر بالمناهج؛ ليحيل كل ذلك على علامات التقدم والتطور في المستوى اللغوي.
جراء لغة «النت» شُوِهت الحروف العربيّة تشويهًا كاملًا، وما كان مرفوضَا من دعوات إلى جعل اللّهجة العاميّة هي اللّهجة المتداولة، أو تلك التي أرادت أن تسوّق لاستخدام السّريانية وقُوبلت بالرّفض في خمسينيات القرن، أصبحت أمرًا واقعًا اليوم وذلك بفضل أبنائنا، إذ أخذوا يكتبون الأرقام بدلًا من الحروف في محادثاتهم، وتحويلها بالكامل إلى جمل وعبارات تحتاج إلى متخصّصين لفك شيفراتها، ومن أمثلتها: (تعا لعندي حتّى نحكي مع بعضنا ونغيّر الخبر)،( ta3a la3ndi 7atta ne7ki ma3 ba3edna w n8ayyer el5abar ( من هنا نرى أن المتحدّث بلغة «التشات» قد استبدل الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة والأرقام، فرمز إلى حرف (العين بالرقم 3، والحاء بالرقم 7، والغين بالرقم 8، والخاء بالرقم 5). أو (2na ou7ibouka ya a5i) الكلام بالعربيّة هو (أنا أحبّك يا أخي). وهكذا…
في المستوى الشّخصيّ أجد صعوبة في فهم هذه الكتابة، وأشعر بحرج كبير إذا ما أردت أن أجاري طلابي في التّداول بها، وحاولت لغير مرّة إقناعهم أنّه علينا أن نترك التّخاطب بها، لأنّها لا تمت إلينا بصلة.
أضف إلى أنّنا ندرس اختصاص اللغة العربيّة ما يفرض علينا أن نؤمن بدورها في مدّ جسور التواصل بيننا، ومن ثم إظهار العلامات الدالة على سهولتها؛ التي تحيل بالتالي على التمرس باستخدام اللغة العربية الفصحى على الأقل في المدارس والثانويات، فيحيل ذلك على دوال أنّها ليست صعبة، كما يحاول البعض أن يدّعي، زد على ذلك أنّ هناك الكثير من العبارات التي لا تحتاج إلى حروف كثيرة لنعبّر بها عن حاجاتنا كما الأمر في اللغات الأخرى فكلمة ( – My Darling ماي دارلينغ) في الإنكليزية والمؤلفة من عشرة حروف يقابلها في العربية (حبيبي) وهي مؤلفة من خمسة حروف؛ وعبارة (صباح الخير) في العربية والمؤلفة من تسعة أحرف يقابلها في الإنكليزية ) Good morning) وهي مؤلفة من أحد عشر حرفًا وهي بالتالي أطول من حيث عدد الحروف وأثقل في الكتابة واللفظ. أَوَنقول بعدُ إنّ اللغة العربية أكثر صعوبة من غيرها من اللغات؟!
نضيف إلى ما تقدّم الحديث به، ما تعرضه المحطات التلفزيونية من المسلسلات المترجمة من الهندية أو الفارسية أو المكسيكية أو التركية، كأن يَرِد في شريط الترجمة، (أنتي فتات جميلة؛ وعليك أن ترتدين ثيابً فاخرتن، ولكي وحدكي أوجّه كلامي). وهنا يبدو الخلط واضحًا بين كاف المخاطبة والتي يجب أن تُحرّك بالكسر وبين ياء المتكلم التي تعود إليّ، كما كُتِبت التاء المربوطة تاء مبسوطة، ولم يُنصب الفعل المضارع، ولم يُوضع التنوين على ألف، ومع هذا النوع من الأخطاء حدّث ولا حرج.
في المستوى البصري وضعْنا يدَنا في هذه العبارة على كمٍّ هائل من الأخطاءٍ الإملائيّة والنّحويّة؛ ونحن نعرف أن عين المُشَاهِد قد التقطت هذه الأخطاء، فاعتمدها لاحقًا في كتابته، وقد حسب العبارة صحيحة سليمة خالية من أيّة عيوب لأن المحطة مصدر ثقة بالنّسبة إليه.
ولا بدّ في هذا السّياق من الإشارة إلى أنّه يتم تحويل الكثير من المفردات من اللغة العربيّة الفصحى إلى اللهجات العاميّة؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر استبدال (أسعد الله مساءكم بـ يسعد مساكن/ فيك تدهن لي مرهن على الحرْق/ وأعطونا رأيكون بطبختنا) وقد يكون الخطأ هنا سمعيًا، فيأتي التبرير الجاهز وهو أنني استخدم اللهجة العامّية، ما يساهم في ترسيخ هذه المفردات في أذهان الناشئة والجيل الصاعد. ونحن نعرف ما السلطة التي يمارسها الإعلام اليوم والمكانة التي يحتلّها، وتأثيره في الرأي العام. وهنا نلاحظ أن اللغة تعاني الكثير من المشاكل ومن التهميش والازدراء وعلى يد أهلها وللأسف الشديد.
ولكن وعلى الرّغم من كلّ ما تقدّم، لا بدّ وأن أضع بين أيدي الناس الكثير من الحقائق اللغوية والتي تؤكد أنّ اللغة العربية أقرضت «سواها من لغات الإنسان أكثر من اقتراضها منها»(10) … وهنا يظهر فضلها جليًا وقد استطاعت أن تفرض اللغات الأخرى شيئًا كثيرًا «لم يحصه حتى اليوم الراسخون في علم اللغات»(11)، وما ذهبت إليه يؤكده ما جاء على لسان اللغويّ الألماني «يوهان فك» إذ إنّه مع الأيام برهن» التراث العربي التالد الخالد على أنّه أقوى من كلّ محاولة يُقصد بها إلى زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر»(12)، وهذه شهادة تفتخر العربيّة بها، وتضعنا أمام أمل جديد من أنّ اللغة العربية ستعود إلى عهدها القديم وألقها العتيد.
إذًا، تعاني اللغة العربية اليوم من ضغوط كبيرة على المستويين المحليّ والعالميّ، وهنا أخذت الأجيال تعاني جراء هذا الموضوع الأمرّين، وقد نرى اللّغة وهي تمرّ بأوضاع وظروف شتّى، وتعاني كما يعاني النّاطقون بها، ذلك أنّها لم تكن منعزلة عن التّطورات التي أصابت المجتمع، «وكان على العرب أن يواجهوا هذه القوة الطّاغية للحضارة الغربيّة»(13)، فخاضت صولات وجولات، استطاعت معها في كلّ مرحلة أن تقاوم الوهن والضّعف لتعود أقوى، وأكثر قدرة على المواجهة والتّحدّي، ذلك أنّ أهلها يثقون بها وبقدرتها على المواكبة والتّحدّي، وحتى تنمو اللغة العربيّة أكثر فأكثر تحتاج إلى نهضة علميّة وفنيّة وثقافيّة شاملة لتكون في مستوى البلدان المتقدّمة في العالم، ولتعيدها إلى سابق مجدها.
خاتمة:
لا يغيب عن بالنا أنّ اللغة العربيّة هي لغة الشّعر الجاهليّ، كما هي لغة الآباء والجدود، ولغة القرآن الكريم الذي حفظها من الاندثار، وهي التي غذَّت علوم الأمم وقد اعتمدت عليها في نهضتها الفكريّة والعلميّة.
وما النّهضة التي علينا أن نبدأ بها الآن وفورًا إلا خطةٌ متكاملةٌ ما بين أبنائها والناطقين بها، والمؤسسات الرّسمية وتأتي في كل الميادين وعلى الشّكل الآتيّ:
– يجب القضاء على التخلف العربي في الحقل العلميّ، ودعم الأبحاث العلميّة، والإنتاجات الفكريّة، بغية استعادة الأمجاد العربيّة في هذا المضمار؛ ولا ننسى في هذا السّياق ما الأثر الذي تتركه الوحدة العربيّة على المستويين السياسي والثّقافي، على شدّ أزر اللغة وصمودها في وجه اللغة الدّاهمة.
– يجب تضييق الهوة بين الفصحى والعامية، وهذا الأمر ليس مستحيلًا لأنّ عاميتنا فيها ما نسبته سبعون بالمئة من اللغة الفصحى.
– إعادة هيكلة البرامج التعليمية وباللغة العربيّة في المدارس والثّانويات والجامعات في الدّول العربية، وهي تجربة ناجحة والمثال حاضر أمامنا في القطر العربي السوري، ولا يعاني أبناؤه من مشاكل تذكّر في سوق العمل أو في التّواصل مع الدّول الأخرى ومن اللغات المختلفة (الإنكليزية على الأقل).
تدريب المذيعين على اللغة العربية الفصحى، وتوسيع معجمهم اللغويّ بإتقان المفردات المتنوعة التي ستكون ساعدًا لهم في عملهم، فلا تقف عند أهل السياسة، بل تتعداها إلى أهل العلم والتّربية.
توسيع التّبادل الثّقافي والعلمي بين البلدان العربية والبلدان الأخرى.
تقوية الدّعاية للغة العربية وأجهزتها من أجل نشرها، وهنا يأتي دور الإعلام والإعلان باستخدام اللغة العربية في كل إعلاناته، وبرامجه السياسية والثّقافية والاجتماعيّة.
وأملنا في تحقيق حلم استعادة المجد كبير، فقد برهنت اللغة العربيّة في غير مرّة أنّها لغة الماضي المجيد، وأنّها حيّة تؤثر وتتأثر وتتفاعل، وأنّها متفوقة على كلّ لغات العالم بما فيها من خصائص ومرونة، وهي لغة الحاضر الّذي يستوعب الطروحات كلها، يفتح زوايا الحوار على رؤى متعددة تعيش وتحيا بحياة أهلها، وأنّها لغة المستقبل الّذي يلحق بركب النّمو والتّطور، فتستوعب المفردات كلها سواء الأجنبية الدّخيلة، أو المعرّبة، ولا تقصّر عن السّير في طريق الحضارة.
المجد لك يا لغتنا، وأنت تتفاعلين على المستوى الثّقافي، والعلمي والاجتماعي والسّياسي، وقد حان الوقت لنزفك عروسًا للغات العالم؛ ليستعيد العرب معك مجدهم ولغتهم، ووضعها في مكانتها اللائقة بها، والكفّ عن النّظرة الدونيّة إليها.
الهوامش
أستاذة في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
1 – حليم بن ابراهيم جريس دموس، شاعر لبناني ولد في زحلة 1888-1957م.
2 – محمد بن إبراهيم الحمد: فقه اللغة مفهومه وموضوعاته وقضاياه، دار ابن خُزيمة للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية، الرياض، ط أولى، ص 125، سنة 2005م.
3 –م.ن ص133.
4 – محمد حسن، عبد العزيز: العربيّة الفصحى المعاصرة قضايا ومشكلات، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، ط أولى، ص8، سنة2011م.
5 – خديجة، شهاب: أدب الأطفال حكاية جيل لجيل آخر، مجلة المنافذ الثقافية، العدد 20، ربيع 2017م، ص 4.
6 – عبد العزيز، التويجري: اللغة العربية والعولمة، منشورات المنظمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة، إيسيسكو، ص. 8، سنة 2008م.
7 – م، ن. ص7.
8 – محمد، قيراط: اللغة العربية وتحديات العولمة، مجلّة بوابة الشرق الإلكترونية عدد رقم 3439، الصادر في 2-1-2016م.
9 – صبحي، الصالح: دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ص. 348، ط. 16، أيار 2004م.
10 – م، ن، ص. 348.
11 – محمد، قيراط: اللغة العربية وتحديات العولمة، مجلّة بوابة الشرق الإلكترونية عدد رقم 3439، الصادر في 2-1-2016م.
12 – محمد حسن، عبد العزيز: العربية الفصحى المعاصرة قضايا ومشكلات، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، ط أولى، ص10، سنة2011م.
13 – م.ن، ص7.