ذكرياتي مع فيروز (ج. 7)
} رانية مرعي
حفظْتُ على مدى أعوامي الأولى كلّ الأغاني التي رسمت وطني جنّةً فيحاء.. وكتابًا مقدّسًا أصلّي حروفه وأنا أسكنُ قلبَ الله.
أحاسيسُ كانت تسكنني – وما زالت – كلّما كان الحديث عن لبنان. فأنا كفيروز، لم أرهُ يومًا قطعةً من تراب.. بل هو مهبطُ الرّوح.. والأنا التي يشمخُ بها جبيني..
« من يوم لي تكوّن يا وطني الموج كنا سوى
ليوم لي بيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى
تاجك من القمح تمنيتلك السلام
شعبك بحبك لتبرد الشمس وتوقف الأيام.»
وحزيران الذي كان يطعّمُ شرفتي بالأزاهير.. فجأةً اشتعلَ في يومٍ كئيب، أحرقَ كلّ طفولتي وسرقَ منّي بهجة الأمل..
صرتُ غريبةً في قريتي، وشباكي اختفى خلف المتاريس.. يقتاتُني الخوف ويتربّص بي موتٌ أحمق.. وما أغربَ الموت في قاموس ابنة السبع سنوات!
« كنت متوّج بالأخضر ليش مغيّر؟
وين زهرك؟ وين سحرك خبرني
وين لي كانوا حراش صنوبر
شو قولك صاروا ذكرى؟
ما في أتعس من أنك تقعد تتذكر.»
طرقاتُنا التي كانت تموجُ باللقاءات صارت مقفرة.. ممنوعٌ فيها التجوّل بأمرٍ من مغتصب وخائن !
وبيت عمّي الذي كان على مرمى النّظر صارَ الوصولُ إليهِ لألعبَ مع «جومانا» حلمًا خطيرًا..
ممنوعٌ أن أخرجَ إلى الحديقة !
ممنوعٌ أن أسابقَ الفراشات على سطح المنزل في الصباح الباكر !
ممنوعٌ أن أذهبَ إلى مدرستي !
ممنوعٌ أن أحلمَ بالعيد !
« سكروا الشوارع
عتموا الشارات
زرعوا المدافع
هجروا الساحات «
أين نحنُ يا أبي؟ وماذا حصل؟
وأبي يردّدُ بنبرته الهادئة «لن يطولَ الشّقاءُ يا صغيرتي، والقمرُ في سمائنا سينيرُ درب الحق.. وسيحاسبُ كلّ من كسرَ خاطرَ الأحلام.»
« عندك بدي ابقى ويغيبوا الغياب
اتعذب واشقى ويا محلا العذاب
وإذا انت بتتركني يا أغلى الأحباب
الدنيي بترجع كذبة وتاج الأرض تراب.»
فترةٌ لن تُمحى من ذاكرتي، ولن أدعها تتسرّبُ منّي بداعي الزّمن. فالمحتلُّ قتلَ رفيقتي.. وأسرَ ابن الجيران الجريح.. ودنّسَ أرضي.. وفقأ عينَ النّور.. حتّى بتنا في سجنٍ ونحنُ أصحابُ الأرض وكلّ الحكاية..
وفي دفتري الصغير الذي كنتُ أدوّنُ عليه مشاغباتي، كتبتُ بقلمٍ أحمرَ – على غير عادتي لأنّي كنتُ وما زلتُ أثقُ بقلم الرّصاص – في ليلةٍ مشتعلةٍ بالقذائف..
« يلا ينام لبنان
يلا يجيه النّوم
يلا تجيه العوافي
كل يوم بيوم.»
الكلمات التي كانت أمّي تغنّيها لشقيقي كي ينام.. علّه ينام !
لم أكن أعرفُ أنّ الألمَ يغورُ في القلب بهذه القسوة ليجرّحَ فيه حتى النّبض.. وكم أشفقُ على أيامٍ ثكلى أضعتُ فيها الرّفاقَ والأحبّةَ على معابر الموت..!
«سألوني شو صاير ببلد العيد
مزروعة عالداير نار وبواريد
قلتلن بلدنا عم يخلق جديد
لبنان الكرامة»..
وفعلًا بقينا نزرعُ الورودَ في أحواض صارت بحجم الوطن، ونعتّقُ العطرَ لننسى رائحةَ الموتِ ودخان الحقد الذي يتّمَ كلّ ابتساماتنا..
وصرتُ أكتشفُ فيروز أكثر..
بكتب اِسمك يا حبيبي.. الحبيب هنا لبنان !
حبيبي بدو القمر.. وهنا أيضًا لبنان !
بحبك ما بعرف هني قالولي.. عرفته.. هو لبنان !
ومن يومها، عرفتُ أنّ الوفاء ليسَ يقدرُ عليه إلّا من يعرفُ قيمةَ الأرض.. ومن يصونُ العهد.. ومن يحمي الذاكرة.. ومعهم فتاةٌ ما زالت حتى الساعة لا تبكيها أغاني الشّوق.. بل نشيدٌ لوطنٍ أحرقوه ونالوا منه.. ولكنّها ما زالت تؤمنُ أنّ..
«لبنان الحقيقي جايي
لبنان البساطة جايي
تيشيل الوجوه المصبوغة
وياخدهن الشتي..»
(يتبع)