«علامات الحياة» بالعربيّ.. تصاوير مجازيّة لواقع أكثر فداحة!!..
} طلال مرتضى*
عندما نتحدث عن الرواية أو سرد السيرة وشتى أنواع القَصص، فإننا لا نتوقف عند مدارك الاحتمالات ودلالات التوثيق والتدوين. وذلك لاتساع أسهم المساحة في كل ما ذكرته آنفاً، فالمعروف أن النص المروي روحه رحبة، قادرة على استيعاب كل ما يدور في محيطها الحالي أو الماضي، لهذا نقف مستغربين لدى وقوفنا على نص شعري مكتمل يؤدي الدور ذاته الذي أدّاه النص الروائي. وينبع هذا الاستغراب من باب التحقق بأن مساحة الصورة الشعرية أضيق بكثير من مساحة الصورة في النص المرويّ، بصفةِ أن الصورة الشعرية خاطفة، تومض بسرعة البرق لتسكن مباشرة في الذهن فتختبر على عجل فتنته، باعتمادها أسلوب التفخيخ والمفاجئة التي تشل – في لحظ وقوعها – كل خيوط الواقع المحيطة وتستبدلها بمقاربات تشابه أطياف الأماني والأحلام وهذا بغض النظر عن وقعها الصادم أو الخلاب على المتخيّل..
توكيداً على تثبيت هذه الرؤية وبالرغم من تجربتي القرائية التي أعدّها، عند خط الجيد، أقول: إن مثل هذه الحالة قل ما نجدها أو نعاينها في المفرز الشعرية، وأصل إلى محصلة أنها تكاد تكون منقرضة تماماً في المنجز الشعري المعاصر، هذا إلا ما رحم ربي في حالة ما، وحين السؤال عن السبب، لا بد من التبرير بأن هذا يعود إلى تسارع عجلة الحياة وهو ما يكثف من عدد التصاوير في اللحظة وهو ما يجعل الأمر بغاية الصعوبة. فهذه السرعة تحتاج إلى موازٍ يستطيع مجاراتها، وهذا الموازي – حتماً – يحتاج لمقومات أكثر من عادية، اختباره للحياة من كل جوانبها (الثقافية والاجتماعية والسياسية). وهذا دليل كافٍ لنضع نقطة أخيرة في نهاية هذا السطر بعدما نسلط الضوء على ما حولنا وما بين أيدينا من مقولات في الأدب أو في السياسة أو في الاجتماع لنصل لخلاصةٍ تدلي بأن الأديب أديباً والسياسي سياسياً والاجتماعي اجتماعياً وكل منهم سيّد ملعبه. وهذا ما يجرّني إلى استنتاج آخر يروي غرور السؤال الذي ينخر بسوسه لبّ الفضول برأسي حول هروب عدد كبير من الشعراء نحو سهوب الرواية وتركهم مقامات الشعر؟!
وكي أختصر تلك المقدّمة وأعطي جواباً مختصراً لهذا السؤال الفادح، لا بد لي من إرجاء السبب إلى موضوع تشكيل الصورة. فالصورة هي التي تتحمل إثم ما يجري في الساحة الكتابية، فاختلاف كينونة الصورة في الرواية عن الصورة في الشعر يمشي بخطين متوازيين تماماً، لكن مقومات الصورة الشعرية مغايرة تماماً لكون خاطفها وخيوطها حامية لدرجة عالية قد تذيب ما تقع عليه على عكس الصورة في الرواية التي تشاركها وجهة الوصول، ولكنها تفتقد سرعة الوصول هذا عدا منسوب حرارة نبضها المنخفض، وهذا يقودنا نحو مصطلح عمليّ أكثر انفتاحاً في الدلالة، وهو التخصص.
لنقول: إن كل ما نقرأه عن السياسة هو منجز لسياسي وأدبي لأديب وإلى ما هو كذلك، فالشعر في موطن مختلف تماماً عما كل ما ذكرته، فللشاعر عدّته الخاصة والتي تفارقه عن غيره، فهو قبل كل شيء يجب أن يتحزّم قبل ذي بدء بدرع السياسة ودرع الاجتماع ومن ثم درع الأدب، تلك المقوّمات كلّها تجعله بقادر على اقتناص الصورة الخاطفة لحظ هروبها من فوهة محيطها وتدوينها، لتصل إلى متلقيها وكأنها بنت لحظتها الأولى.
تلك المقدّمة الطويلة لم تكن للمفارقة أو الممايزة بين الصورة الشعرية أو الصورة العامة في باقي صنوف الكتابة، بل هي محاولة للدخول من باب عالٍ إلى منجزٍ أؤكدُ بأنه إذا لم يقارب ما تحدثت عنه أعلاه فإنه ومن المؤكد أن يسلم القارئ خريطة طريق توصله في نهاية المطاف إلى ضفاف النشوة الشعرية التي يبتغي الوصول إليها أو ملامسة تصاوير الواقع التي تلوث المجال البصري، بصور أكثر اتزاناً في تشكيلاتها اللونية وبطريقة انسيابية ليتم دفقها في أوردة الحياة هذا على الرغم من فداحتها..
«علامات الحياة» منجز شعريّ قديم جديد للشاعر النمساوي «بيتر باول فيبلينغر» صدر مؤخراً عن دار «الآن.. ناشرون وموزعون الأردنيّة» يجمع عدداً لا بأس به من النصوص تم ارتكابها بين عامي (1965 – 2020)، استطاعت تلك النصوص محاكاة محيطها وتوثيق لحظاته العصيبة من خلال تصاوير أكثر انفتاحاً، تعتمد في قيامتها على تبيان المشهد الكلي للفضاء الذي تتناوله ولا تقدمه بشكل مجزوء أو منقوص، وتلك ثيمة خاصة، ولو وضعنا كلمة (خاصة) هذه بين قوسين لتوقفنا أمام نتيجة تدلي، بأن مَن دوَّن هذه الصورة يمتلك فضاء خاصاً من الحرية لا يمتلكه شاعر آخر ولكنه يتشارك مع أقرانه في حكاية الانحياز، انحياز الشاعر لأمته أو لدينه أو لقبيلته أو للقطيع الذي يعيش معه، وهذا الانحياز يتبدى في معنى الكلمة بعينها، الانحياز اصطلاحاً، فالشاعر بيتر هو شاعر منتمٍ ومنحاز مثله مثل غيره، لكنه ما يفارقه عن غيره من الشعراء وهذا ما أكسبه هامشاً من الحرية أكبر، هو الانحياز لـ (إنسانية) هذا الكون بكل ما فيه من تناقض، لهذا وفي مستهل الكلام، مباشرة أطلق بيانه الأول في وجه الشعراء بقوله:
«لكان مثيراً أن أرى الشعراء
يرقصون..
لا خلف القضبان..
لكان مثيراً أن أسمع شاعراً يتلو
شعراً..
لا بوقاً للدعاية».
تلك دلالة توكيديّة تشير على أن الشاعر يجب أن يمتح هويته من قصيدته، وبعيداً عن فحوى الرسالة التي وجهها الشاعر إلى الشعراء ليقوموا بدورهم الحقيقي، إلا أنه لم يستطع إخفاء مخاوفه حينما لغز بالإشارة إلى أن ملاعب الشعراء تتجسّد في حريتهم لا أسرهم وراء القضبان عندما يتحدثون عن الاختلاف، لهذا حثهم في مكان تالٍ على عدم الخنوع:
«ضد الاستبداد، ضد الدكتاتورية..
في وجه الدولة..
وفي وجه الحزب..
في وجه الدين المتسلّط
سأقاوم..
وضد.. وضد..
سيتكلم نضالي..
سيتكلم بالفعل
والكلمة».
من يلحظ مطالع هذا النص، يتوقف عند الجمل الإشارية التي تؤكد على ذاته الفاعلة، فهو لم يطلب أولاً من الشعراء أن يقاوموا، بل ذهب للمقاومة بنفسه وترك الباب مفتوحاً لمن يود اللحاق به، وهذا موقف يُحسَب له، في وقت نجد معظم العشراء يدورون بدوائر ضيقة تنتهي بتحقيق ذواتهم وهو ما جعل سقف رؤيتهم الناقدة ونفاذ كلمتهم لا يتعدّى صداه المدى المجدي بين المتصل بين عيونهم وأرانب أنوفهم:
«مئات من الشعراء من
كل العالم..
بينما هم يثرثرون عن أوهامهم
ينتحر الشعر..
يناقشون مشاكل وهميّة
يرثون القصيدة..
الحروب مشتعلة خارج أوهامهم تلك..
وثمة بؤس يطحن الضعفاء في مكانٍ ما».
هذا التدفق الثريّ يصور حرفياً ما يدور في فضاء الشعر والشعراء، لكن الشاعر هنا لم يرتض أن يحصر دوره كناقل للحدث مثل مراسل لقناة إخبارية، بل ذهب إلى ما هو أبعد عندما قدّم جملة خبرية لأقرانه الشعراء بأن عليهم أن يوجهوا سهام شعرهم نحو الحدث الأسمى، حيث قوله: «ثمّة بؤس يطحن الضعفاء في مكان ما».
على الشعر أن يصيب دوماً كبد الحقيقة وبشفافية لأنه دوره وعليه أن يقوم به وأن لا يتوقف أو يستكين تحت أي ظرف من الظروف، لعلمه بأن علامات الحياة ذاهبة نحو مواطن أكثر قبحاً وفداحة في ظل التحولات التي يشهدها العالم، لهذا نجده وفي قصيدة (إلى أوشفيتز*) عارض الشاعر الألماني (أدورنو) صاحب المقولة المعروفة «لا شعر يكتب بعد أوشفيتز».
فالشاعر بيتر ردّ باستهجان على أدورنو الذي وضع حداً للمقولة الشعرية بعد ما جرى في معتقل أوشفيتز السيئ الصيت، فالموت لم يتوقف بعد هذا والحرية تنتهك في كل لحظة بكل بقاع الأرض والأفواه تتكمم كلما نادت بحقها المشروع في الحياة، إذاً لماذا أراد الألماني أن يثني الشعر عن القيام بدوره، بغض النظر عما انتاب الشاعر أدورنو من غبن لفداحة ما حصل في معتقل أوشفيتز؟ إلا أن رسالته هذه وبعيداً عن سموها لتبيان الصورة أو للفت انتباه العالم على ما حصل إلا أنها تقود الشاعر الكبير أدورنو إلى قائمة شعراء الانحياز، لكن هذه المرة وعلى غير العادة نجد أن شاعراً مثله، لا حاكم ديكتاتوري ولا دين مهيمن، قد وضع وبهدوء شاعراً بحجم أدورنو بخانة (اليك) أي الانحياز عندما رد بقوله:
«لا شعر يُكتب بعد أوشفيتز
هكذا تحدث تيودور أدورنو..
لحياة موتى ربما منطفئين
ماذا يعني أن يصمت الشعر
حين يكون صمته خذلاناً للأزمنة!..
ليتكلم الشعر إذاً
وليعلُ صوته مجدداً
من أجل أزمنةٍ مقبلةٍ
ليتكلم الشعر عن أوشفيتز ليس حالة تاريخية
أوشفيتز: جوهر الإنسانية
ليكن وعدنا الأبدي أن لا يحدث
مثلما حدث في أوشفيتز.
إنه الدور الأمثل للشعر، على ذاكرته أن تحتفظ بكل الصور الموجعة منها والمفرحة لعل الشعراء ذات مرّة يرسمون بقصائدهم خطاً بيانياً جديداً لحياة أكثر سطوعاً، ولكنه في كل مرة لا ينفكّ من نكز أمنياتنا التي تجدف في أنهار الخيبة الآسنة التي يعيشها العالم، هذا الهاجس الذي يصادفنا في معظم القصائد التي تركها لنا الشاعر بيتر في دفتر «علامات الحياة» وأذكر منها على سبيل البيان، قصيدة المجزرة، قصيدة جحيم الصور، قصيدة حرب العراق، قصيدة شارع الموت المعتم والكثير منها والتي تتوقف عند واقع لا يمكن تجاوز حدوده، يُفضي إلى أن كل هذه الأماني لا تتحقق قبل أن ينال الشاعر حريته، لهذا نجده عند ضفة نص قد أصابه العياء قالها بتجرد: «بينما يسود العنف والدمار.. تظل الحرية محض حلم».
لم يقل جملته تلك كمبالغة شعرية أو من باب جزاف يرتكبه الشعراء للفت الانتباه إلى ما يكتبون، بل قاله حين وصلت ذاكرة التوثيق في نصوصه حد الطمي، ويمكن التوقف على هذا لدى معاينة عدد من القصائد، مثل أوشفيتز وقصيدة ماوتهاوزن وقصيدة حرب العراق، وقصيدة أكتوبر في وارسو.
استطاع الشاعر في هذه المجموعة السيطرة على كل أماكن الحدث (المكان) التي دوَّنها من حيث تبيان الوقائع بالحقيقة التي لا يشوبها أي غبار، لكنه لم يستطع الإمساك بخيط الزمن على الرغم من وقوفه على أحداثه، تحفظ الذاكرة الجمعية كل ما يتعلق بحدوثها وقتاً وزماناً، لكن ما يتمتع به الشاعر من وعي وقدرة استقرائيّة، توقف عند نقطة الزمن والذي ربطها باعتراف الجناة، أراد انتزاع الحقيقة من أفواههم أولاً:
«إلى أن يحين وقت الاعتراف
ستبقى جثث مرصوفة جنباً إلى جنبٍ..
في حوض ضحل
رجال، نساء وأطفال
بجانب الحيوانات الميتة.
الحكام الجدد
سوف يوثقون صوراً وأفلاماً
«ذلك من أجل العدالة».
هذا ما سيقولونه في وقت لاحق..
الجثث ملفوفة بأغطية بلاستيكية
توضع في المستودعات
إلى حين التخلّص منها كالنفايات الخطرة
لكن القتلة أحرار
لأن كل شيء حدث في الحرب».
هل هو تسليم بأن ما حصل قد حصل، ألهذا ترك الشاعر نوافذ قصيدته مفتوحة على مدارك التأويل إلى حين تحقيق العدالة، العدالة التي استبعد وصولها في ظل ما يعيشه الإنسان من هيمنة بسبب الاختلاف، الديني والسياسي والاجتماعي؟!!..
أشي بأن شيئاً ما غير متزن ومعادلة غير متكافئة في الدول على هذه الأرض، القائمة على الادعاء والزيف والنفاق، والشاعر بيتر هو خير من صورها بعين ثاقبة حين قال في قصيدته «أكتوبر في وارسو:
«السماء الزرقاء
النساء الجميلات..
النصب التذكارية
لافتة تاريخية..
أكاليل الزهور
الأضواء الحمراء..
انتفاضةُ وارسو
سجنُ غستابو
المعذَّبون المقتولون
التاريخ البولندي
الهوية الوطنية
العروض الخاصة بالبضائع..
متسوّل ينحني
البابا راكع في صلاته.
في تلك القفلة غير المتوقعة أوجز الشاعر كل الويلات التي تحيق بالبشرية، ومع هذا كله لم يتوقف عند هذا الحد بالكلمة، بل ذهب نحو الفعل الذي بدأه ببناء جسور التواصل بالتشبيك والعطاء عندما كتب:
تصافحوا
دون زيف
دون غدر.
تصافحوا
فوق كل الحدود
الجدران والأسوار.
تصافحوا
بدون أمر
ضد أي أمر.
تصافحوا
دون السؤال: لأجل ماذا؟.
بطاقة:
بيتر باول فيبلينغر 1939، شاعر ومصور نمساوي، درس المسرح والأدب واللغة الألمانية وآدابهما والفلسفة.
صدر له حتى الآن واحد وخمسون ديواناً شعرياً. ترجمت أشعاره إلى أكثر من عشرين لغة. حصل على الكثير من الجوائز والمنح الأدبية والاوسمة وشهادات التقدير بما في ذلك جائزة فرانز ثيودور كاسكو من نادي القلم النمساوي ووسام صليب الشرف للعلوم والفنون من الدرجة الأولى والميدالية الثقافية لمقاطعة النمسا العليا ووسام الشرف الذهبيّ للخدمات «النمسا السفلى» ووسام الاستحقاق الذهبي لمقاطعة فيينا وأخيراً وسام الشرف العظيم للخدمات.
يعود الفضل في ترجمة هذه المجموعة الشعريّة للأديبة العربية والمترجمة الدكتورة إشراقة مصطفى حامد الحائزة على الميدالية كأول امرأة عربيّة من حكومة فيينا.
* أوشفيتز: معتقل ارتكب فيه النازيون جرائم حرب فظيعة بحق اليهود.