الحفلة التي أقمناها في سان باولو للبطريرك الأرثوذكسي اغناطيوس هزيم
في إحدى حلقات «سيرتي ومسيرتي» تحدثت عن الحفلة الناجحة التي أقمناها في «سان باولو» للبطريرك الأرثوذكسي اغناطيوس هزيم أثناء الزيارة التي قام بها إلى البرازيل.
عن العدد 459 من مجلة صباح الخير تاريخ 02/12/1984 التغطية الكاملة لهذه الحفلة:
أقامت الجمعية السورية الثقافية حفلة عشاء كبيرة على شرف غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم في مطعم لاريزيدانس تقدمتها حفلة كوكتيل.
حضر الحفلة بالإضافة إلى غبطته، سيادة المتروبوليت اغناطيوس الفرزلي، وسيادة المعتمدة البطريركي الأرثوذكسي في المكسيك المطران شدراوي، وسيادة المطران يوحنا شديد راعي الأبرشية المارونية في سان باولو، وعقيلة القنصل السوري في سان باولو السيدة ماريا الرداوي لوجود القنصل السوري في الوطن، وقنصل الأردن الفخري ألفريدو بيطار خوري، والأستاذ سلمان عزام مدير المركز الثقافي السوري، والقس راجي الخوري المقدسي راعي الطائفة الإنجيلية، ورئيس المجلس الملّي الأرثوذكسي السيد إليانو خباز وممثلو الجمعيات والمؤسسات العربية في سان باولو… وممثلو الصحافة العربية وعدد كبير من المدعوّين.. ولقد تميّزت الحفلة بالتنظيم الرائع وجو الألفة والمحبة الذي كان سائداً بين الحضور.
افتتح الحفلة رئيس تحرير «الأنباء» التي تصدر في البرازيل، نواف حردان، بكلمة رحّب فيها بالبطريرك هزيم، وأتى على بعض مواقفه الوطنية القومية الرائعة. ومما جاء في الكلمة: «مشهود للرجال الكبار بالإيمان.. رؤوسهم مرفوعة.. في وقفات عز بطولية رائعة، رغم التعب والألم والشقاء. من ضعف يتقوّون وأشدّاء يصيرون.. من قلوبهم تنبع محبة غامرة ومن عقولهم حكمة مضيئة.
هكذا أنتم يا صاحب الغبطة كنتم وما زلتم من هؤلاء الرجال الرسوليين العاملين المناضلين بالكلمة والقلم والفعل من أجل الدين الصحيح والوطن الصحيح. لا فرق عندكم بين أجنحته كلها، ولا طوائفه لا مسيحية ولا محمدية، وأثبتّم بالفعل أن هذا الكرسي الأنطاكي الذي تتسنّموه هو لبطريرك الشام كلها، والعراق والأردن وفلسطين كلها ولبنان كله.
* * *
ثمّ القى الشاعر شفيق عبد الخالق(1) قصيدة، كان مطلعها:
خفقات الشوق هيا رحبي
وتهادي بجلال الموكب
وأكرمي حبراً جليلاً فيه
وطن يهفو لنا عن كثب
شعلة قومية مشرقة
في مجالات العلى والأدب
عربي الروح سوريّ الرؤى
ونضال إرث حرّ وأبي
وطني صادق ملتزم
بطلاب الحق قبل الرتب
* * *
كلمة الأمين لبيب ناصيف
ثم ألقى المندوب المركزي للحزب السوري القومي الاجتماعي، عضو المجلس الأعلى الأمين لبيب ناصيف، كلمة رحّب فيها بالبطريرك قائلاً:
صاحب الغبطة أغناطيوس الرابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الجزيل الاحترام
أيها الحفل الكريم
أهلاً، من القلب، نرددها اليوم مرحبين بغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع، الكلي الطوبيّ والجزيل الاحترام، يأتي إلينا صوتاً نابعاً من تاريخ أمتنا الحضاري، يدعو للعيش المشترك، إلى إعادة الحياة الواحدة للبنان، وإلى أن يكون شعبنا شعباً واحداً، وإن اختلفت الرؤى وتصارعت القناعات، لا طوائف متناحرة ومقاطعات.
ففي خضمّ هذا الواقع المأساوي، بل التدهور الذي يعانيه لبنان منذ عشر سنوات، وفي مواجهة مخطط صهيوني رهيب يهدف إلى تمزيق جسد الشعب وتوزيعه في كانتونات لطوائف متقاتلة، بعد أن كانت الإرادات الأجنبية قد قسمت الأرض في معاهدة سايكس – بيكو إلى كيانات مبعثرة، نحن نحتاج إلى من يدعو إلى وحدة أبناء الوطن، لا إلى توحيد أبناء كل طائفة، ولأن يكون لبنان واحداً لكل بنيه، لا أن يكون لبنيه قطع أرض متناثرة يلجأون إليها خائفين حاقدين.
نحن نحتاج، والمؤامرة تريد أن تسرق المواطن من دولته إلى طائفته، إلى صوت يقول إنّ المواطن هو مواطن في دولة، له فيها الحقوق كاملة وعليه تترتب الواجبات، مواطن هويته وطنه، وملجأه دولته، وأمنه عدالة هذا الوطن.
نحتاج، وعواطف التفرقة تهب على أرضنا وتعصف في أعماق أعماق شعبنا، في فتنة مذهبية تريدها «إسرائيل»، ويعمل لها عملاؤها والضالون من أبناء بلادنا، نحتاج، لا إلى من يزكي نار الكراهية أو يغذي أتون المؤامرة حطباً وزيتاً، إنما إلى من يرفع لواء الشعب لمواجهة خطط إفنائه، وإلى أن يكون الجسر المتين بين الطوائف يقول لها بصوت التاريخ وحسّ المستقبل، إنّ لبنان، إذا تقسّم، انتهى وزال وتبدّد، أما إذا عولجت مشاكله بمنطق الدولة الواحدة، وبتقدير حقيقي لأبعاد المؤامرة الصهيونية على أرضنا وتاريخنا وشعبنا، استطعنا أن نصرع الوحش الطائفي، قبل أن ينهار الوطن وينتهي الحلم.
غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع، هو صوت قوي مؤمن واثق، ارتفع في ليل لبنان الطويل، ينبه إلى المصير القاتم إذا استمرّت الرياح المذهبية عاصفة عاتية، يمدّ يد المحبة والمصارحة والثقة، يخاطب العقول والقلوب والضمائر، يقول لها بالعقل والمنطق إنّ الويل آتٍ آت، إذا لم ترتد سيوف الحقد إلى أغمادها، وإنّ لبنان الذي تتناتشه الطوائف سيتقطع ويتبعثر إذا لم يتنبّه أبناؤه، ولم يتوقف سيل الدم والهدم والدمار.
فيا صاحب الغبطة..
فرحنا كبير لأن ما زال في شعبنا، والدموع أنهار والآلام رهيبة، من يعمل لرأب الصدع وإعادة اللحمة.
فرحنا كبير لأنّ العقل في بلادنا ما زال ينبض، وأنّ من بين ركام الويل والاندثار، يرتفع صوت داوٍ يدعو إلى لبنان الذي نريده أن يبقى، فلا تذريه رياح ولا تفتته أحقاد…
فرحنا كبير لأن في لبنان قوى وطنية خيّرة متراصّة، تناضل في سبيل منع المخطط التفتيتي من أن يصيبنا في القلب والعقل، ليبقى لبنان مشدوداً إلى محيطه لا منغلقاً عنه ولا معادياً له.
وفرحنا كبير أيضاً لأنّ في أرض الجنوب المحتل يطلع مارد المقاومة الوطنية اللبنانية يحقق المعجزات في البطولة والتضحية، فلهذه المقاومة نرفع التحية ونهتف، فالمسيحي المسيحي هو من دافع عن أرضه وحقه في وجه عدو مغتصب، والمحمدي المحمدي هو من التحم مع أخيه في الردّ على هذا العدو يدنس أرضه ومقدساته.
وفرحنا كبير، يا صاحب الغبطة، لأن الدور الذي تمارسه الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية هو الدور الوطني المطلوب من الكنائس المسيحية المشرقية، في واقع التشرذم الطائفي والمذهبي، وفي مواجهة الهجمة الإسرائيلية: أن تكون هذه الكنائس مع محيطها وأبناء قومها، فلا تتقوقع أو تنعزل، ولا تمارس على أرضها إلا سياسة التصدي لأعداء وطنها وقومها. وسياسة الانفتاح في سبيل لملمة الجراح، وهي نازفة، مدركة أن الخطر لا يطال محمدياً دون مسيحي، إنما يطال جميع الشعب في وحدته واقتصاده ورخائه وصناعته وازدهاره.
فبِاسم القوميين الاجتماعيين في هذا المغترب أرحب بكم والقلب خافق بالفرح، ونؤكد لكم أننا في سبيل لحمة شعبنا ووحدته، نعمل ونقدّم القرابين شهداء بعد شهداء، في اليمنى سيف للتصدي، وفي اليسرى غصن زيتون نلوح به لمن يريد معنا وحدة الشعب وتوحيد الأرض.
إيماننا أنّ سورية التاريخ والحضارة والجغرافيا والمصير وطن واحد لشعب واحد.
قناعتنا أنّ «إسرائيل» عدو يريد اغتصاب الأرض وبعثرة الشعب وتشويه الحضارة وسرقة المستقبل.
إرادتنا أن نبقى واقفين: في الصدر تحدٍّ، في الساعد قوة، وفي القلب إيمان كبير.
وقدرنا أن نبقى أوفياء لأمتنا، أوفياء لتاريخها، أوفياء لمستقبلها، أوفياء لهذا القدر الكبير الكبير من الشهداء يتساقطون في سبيل أن يبقى الرأس مرفوعاً، وكرامة أمتنا مصانة، والقمم – قمم بلادنا – عالية عالية، لا تهزّها الرياح ولا تطالها غيوم.
* * *
كلمة البطريرك هزيم
كلمة الختام كانت للبطريرك هزيم الذي قال:
أيها الأحباء
عندما دُعيت إلى الوضع الذي أنا فيه، شعرتُ أنّ هناك قضية أساسية يجب أن تُعالَج.. هي قضية إنساننا في شرقنا.. شعرت أن تراكم الأحداث التاريخية ألبس إنساننا لباساً ليس له، وأنّ هناك كثيراً من الزيف أصبح في شخصيته.. في مقاييسه.. في مراجعه.. في تقويمه للأمور، حتى صرت أرى الكثيرين من أبناء جلدتي وكأنهم نسخ عن سوانا، عن جماعة كنا نعلمها فصارت تعلمنا عن إيمان نحن منبعه، وكأننا أصبحنا المصب وليس المنبع..
ووجدت أن في تكوين شخصيتنا المشرقية هنالك ما هو غير مشرقي على الإطلاق، ووجدت أنّه لا يجوز لنا أن نرضى بأن يبقى إنساننا على هذه الازدواجية: القول بأنه مشرقيّ.. والفعل كأنه لا علاقة له بالمشرق.
حملات أتت خلال التاريخ.. أتت لتزيل عن هذا المشرق.. عن مشرقنا.. شخصيته وطرق تفكيره وقواعد إيمانه وأخلاقه.
صرت أقول.. في حقلي وفي حقل الكنيسة المقدسة، يجب أن نتعرف على الأصول، أن نعود إلى الجذور، وأن نخاطب الأعماق، وأن نستعمل العبارة المشرقية الأصيلة، العبارة الغربية نستعملها اليوم، أحدث بها أمي وأحدث أبي، وأحدث أخوتي والتي أتشرف أن أتحدث بها إليكم.
هذا هو نوع السعي الذي أحاول أن أقوم به في الوسط الذي لي الحظ أن أنتمي إليه، وأن أخاطبه بشكل مباشر.
لماذا أتيت إلى هنا؟
أنا أحترم الجغرافيا، ولكنني لا أعتقد بأنها تصوغ الإنسان، بل إنّ الإنسان يصوغها.
إنّ الإنسان ليس من صيغ الجغرافيا وحدها، فقد يصنعها هو ويحملها معه، وهذا ما جعلني أن أنظر إلى خارج الحدود وأتخطى الجغرافيا المادية لكي أحظى بمقابلتكم… ومقابلة الأحباء الذين اختلفوا جغرافياً عمّا نحن عليه بالأصول، لأننا لا نريد أن يختلفوا عما نحن بغير الجغرافيا.
وحاولت أن أدرس المساعي التي يقوم بها ذوو النية الحسنة، والحمدلله أنهم كثيرون، فوجدت بأنهم ينطلقون من قلب التاريخ الذي يغيّر كل شيء، وفيه نحدد العمر لكلّ شيء.
في التاريخ يولد كل شيء، وفي التاريخ يموت كل شيء أيضاً. لذلك حاولت أن أنبش من خلال إيماننا، ومن خلال القواعد الأخلاقية المشرقية، تلك الفضائل وتلك القواعد.
ماذا فعل.. وماذا يفعل أبناؤنا وأخواننا حيث هم.. في البرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة، في أي مكان في العالم، خارج حدود بلادنا.
هذا السؤال طرحته منذ يومين أو ثلاثة أيام، وأعود وأطرحه بحدة شديدة: ما هو الإسهام الحضاري العميق الخالد الذي لا يولد في التاريخ ويموت في التاريخ، الذي يحمله إنساننا والذي أنتم تمثلونه.
ما هو الإسهام الخالد الذي تقدمونه أنتم أبناء الحضارة الأصيلة إلى بلد يتوقع منكم أن لا تكونوا مجرد عدد، يُضاف إلى أولئك الذين يقومون بأعمال.
ما هو العنصر الخالد الذي تقدمونه لهذه البلاد مثلاً؟ أنا أطرح عليكم هذا الموضوع.. أنا مؤمن أننا عندما رحلنا أتى من بلادنا معنا ما هو محتوم عليه أن يولد في التاريخ ويموت في التاريخ، وأنّ القيم الحقيقية هي تلك التي ينطق التاريخ بها.
ألم يحملها كل واحد معه، مع الظن أنّ الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة هو الذي يبقى! إنني أؤكد بأنّ الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، هو الذي لا يبقى.
كنا دائماً نفاخر بأنّ كل حبة تراب من بلادنا ومن منطقتنا، إنما هي الحبة التي أمسك الله إياها بيده، وجبل منها آدم، وجبل حواء، أي إنه جبل الإنسان من ترابنا، فأين نذهب نحن بهذا التراب، وماذا نفعل به؟
أعرف شيئاً واحداً، أننا لا نستحقه في كل الظروف، ولا نستحقه في كل الأحوال، فإلى متى نكتفي بعدم استحقاقنا إياه؟
أنا آتٍ أيها الأحباء، لأكون لكم جميعاً، شئتم أم أبيتم، أدركتم أم لم تدركوا.
أنتم رسل ما وُلد عندنا، لكي تنقلوه إلى أولئك الذين كان اليونان الإغريق في الزمن القديم يدعونهم الأجانب.. (في الواقع كانوا يدعونهم البرابرة، بمعنى الأجانب وليس بالمعنى العربي القاسي للكلمة).
أنتم رسل، ويجب أن تؤدّوا هذه الرسالة، وهي رسالة حب.. رسالة وئام.. رسالة رؤية واضحة للأساسي وليس للفرعي. أنتم وهبكم الله أن تتمكنوا من النظرة إلى بلادنا من دون أن تكونوا مضطرين بالفعل أن تعيشوا ما نعيشه نحن في تفاصيل حياتنا، فقد يغرق الإنسان في تفاصيل الحياة، وليس العيش نفسه الحياة نفسها.
هذا يحدث عندنا، لا سمح الله أن يحدث عندكم، ساعدونا إذا استبقيتم بقاءكم كله.
وتابع غبطته قائلاً:
إنّ شعبنا في بلادنا يداهمه خطر وخيم، وذلك الخطر أنه أصبح شبه غريب في أرضه، وشبه غريب عن تراثه، وشبه غريب عن صيانة تراثه الأصيل.
نحن نفتش عن الأصالة في إنساننا، ونريد أن نطلبها فيكم أيضاً، لكي تقودنا في هذا السبيل.
صرت أشتهي أن أرى الإنسان في بلادنا مرجعه أبوه، مرجعه أخوه، مرجعه تاريخه. الصورة التي لديّ عندما أحدث بعض الناس، أشعر بأنهم ينتقلون بعيداً بعيداً، لا أدري إلى أيّ عالم، لكي يقتبسوا الفكر الذي هو حصيلة فكرنا.
بلادنا كما قلت هي منبع للفكر والروح، وليست مصباً لأي فكر وأي روح تأتي من هنا وهناك.
بكلام آخر، دعانا الله لنكون معلمين، فلماذا نكون تلاميذ؟
أيها الأحباء.. أنا أتجوّل لكي أرى أخوتكم وكلّهم أخوة لكم، وإني أسأل الله الذي أنعم علينا بمثل التاريخ الذي لنا، وبمثل التراث الذي أعطانا، وهي نعمة من لدنه تعالى لم تُعطَ لأي شعب آخر.
أسأله تعالى أن يبارك جمعكم ويعطيكم نعمة إلهية يكافئ بها لطفكم، لأنكم أتيتم إلى هذا الاجتماع، ولأنكم دعوتم لهذا الاجتماع.. والرب يكون معكم آمين.
هوامش:
شفيق عبد الخالق: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info