المصالحة الخليجيّة «العاجلة».. وما يليها!
من تابع تعبيرات وجوه القادة الخليجيين المُشاركين في قمّة المُصالحة التي انعقدت في مدينة العلا يوم الثلاثاء، يلمس غِياب كامل للمظاهر الاحتفاليّة التي من المُفترض أن تَعكِس «ضخامة الإنجاز»، كما أنّ التوقيع على البيان الختامي تمّ من دون أيّ نوعٍ من الحماس، وغادر البعض قاعة الاجتِماع فوراً.
وما يؤكد أن الاتفاق كان نتيجة إملاءات أميركيّة، تَصَدُّر جاريد كوشنر صِهر الرئيس الأميركي ومُستشاره للمشهد، ومُتابعته كُل التّفاصيل سواءٌ عبر الهاتف قبل وصوله، أو في كواليس القمّة قبيل انعقادها، وربما يأتي الاتفاق في إطار سيناريو حرب أميركي من الممكن أن يكون عُدواناً على إيران، وإشعال فتيل حرب تَحرِق الشّرق الأوسط، ومِنطقة الخليج بالذّات.
وفي مُحاولة الإجابة عن السُؤال الذي تردّد بعد قمّة العلا السعوديّة الخليجيّة، وبيانها الذي خاض في العُموميّات، ولم يُجِب على ماذا اتّفق الأشقّاء المُتصالحون، ووقّعوا أمام عدسات الكاميرات، قد تكون إجابة وزير الدولة للشؤون الخارجيّة الإماراتي أنور قرقاش، هي الوحيدة في ذلك السياق الواضح، حيث أكّد أنّ مطالب المُصالحة في حينها كانت تُعبّر عن الحد الأقصى للموقف التفاوضي، وهو ما يعني حُكماً أنّ اتّفاق العلا تم بالحُدود الدنيا للتوافق الخليجي، وجرى التخلّي بالتالي عن تلك المطالب، بحُكم أنّ 13 مطلباً لم يجر تطبيق أيّ واحد منها، ومنها إغلاق قناة «الجزيرة»، وقطع قطر علاقاتها مع إيران.
أما الإنجاز الأبرز الذي تحقّق حتّى الآن يتمثّل في الفتح «الفوري» للأجواء والحُدود البريّة والبحريّة، وهذا مَطلَبٌ أميركيٌّ بحت، فالرئيس ترامب الذي يتصرّف هذه الأيّام مِثل الثّور الجريح، لا يُمكن أن يمضي قُدُماً في أيّ حرب ضدّ إيران، والأجواء والحُدود بين الدّول التي ستكون ميداناً مُؤكَّداً لها، ورأس حرب فيها مُغلَقة.
فيما حرصت الإمارات على حُضور قمّة العلا السعوديّة، بوفدٍ رفيع المُستوى رأسه الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، وكان يُرافقه الوزير قرقاش، مع بعض الشيوخ من أبناء الشيخ الراحل زايد، وهذه المشاركة قد تكون قطع الطريق أقلّه على وجود خِلاف مع السعوديّة حول المُصالحة مع قطر، وإن كان لم تحصل مشاهد ود وعناق جمعت حاكم دبي، ووليّ عهد البحرين مع أمير قطر، كما تمّ بين الأميرين محمد بن سلمان، وتميم بن حمد.
وتبدو الإمارات وكأنّما اختارت ترك القيادة للسعوديّة بخُصوص المُصالحة وإتمامها، وهذا موقفٌ صريح عبّر عنه الوزير قرقاش حين أكّد أنّ بلاده وضعت «ثقتها» في القيادة السعوديّة لقيادة العمليّة التفاوضيّة، لكن لا تزال الأجواء والحُدود الإماراتيّة مُغلقةً في وجه قطر، ويجري الحديث عن فتحها خلال أسبوع، ممّا يعني أنّ الموقف الإماراتي لا يزال مُتحفِّظاً، على عكس نظيره السعودي مع قطر.
أما المعارك الإعلاميّة التي لا تزال تجري على هامش المُصالحة الخليجيّة، فتُوحي ببقاء بعض التوتّرات، وعلى سبيل المثال، حذفت شركة «روتانا» السعوديّة أغنية «علّم قطر» من موقع «اليوتيوب» وبعد طرحها مُنذ ثلاث سنوات، ولكن أغنية «قولوا لقطر» التي غنّاها مجموعة فنّانين إماراتيين بقيت على حالها في الموقع، مع منع التعليق عليها.
قناة «الجزيرة» والتي كان أحد مطالب الدول الخليجيّة المُقاطعة إغلاقها، تنشغل هذه الأيّام بتغطية الانتخابات الأميركيّة، وتغيب عن تغطياتها أخبار تتعلّق بالسعوديّة، والإمارات، وإن كان موقع «اليوتيوب» لا يزال ساحة، لتصفية الحسابات عبر أسماء بعينها بين دول الخليج، وكلٌّ حسب مُيوله، ودعمه.
وفي حين يتحدّث الوزير قرقاش عن اختبار ثقة للتأكّد من العلاقة مع قطر، يُؤكّد وزير الخارجيّة القطري محمد بن عبد الرحمن في المُقابل، أنّ «قطر لن تُغيّر علاقاتها مع إيران وتركيا، وبعد التوقيع على اتفاق المُصالحة مع الدول الأربع المُقاطِعة لبلاده»، والوزير القطري هُنا يُجيب على أكثر الأسئلة تداولاً بعد ظُهور قادة الخليج وهُم يُوقّعون على الهواء مُباشرةً بيان اتفاق العلا.
إيران الوحيدة التي حرص الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي على التأكيد على ضرورة مُواجهة تهديد برنامجها النووي في كلمته خلال قمّة العلا، واعتبر دورها «تخريبيّاً»، كما أنّ وزير الخارجيّة السعودي الأمير فيصل بن فرحان أكّد في المؤتمر الختامي على وجوب وجود موقف خليجي مُوحّد من إيران، لكنّ قطر ووفقاً لوزير خارجيتها تُؤكّد أنّ «العلاقات الثنائيّة يحكمها بشكلٍ أساسيّ القرار السيادي»، والمصلحة الوطنيّة.
وستبقى التساؤلات مطروحةً حول المكاسب التي حقّقتها دول المُقاطَعة لقطر، إذا كانت العلاقات القطريّة – التركيّة – الإيرانيّة ستبقى على حالها، وإن كانت الدوحة هي الكاسب الأكبر من الاتفاق، وتحقيق شرطها الأبرز، وهو فك الحصار، وفتح الحدود البريّة، والجويّة مع السعوديّة، وهو الشّرط الذي كان السبب في حُصول العناق بين الأميرين بن سلمان وبن حمد، فيما لم يحصل المُقاطِعون على مكاسبٍ في المُقابل، عدا توقّف قناة «الجزيرة» عن تناول الأمير بن سلمان، وسياساته الداخليّة، والخارجيّة بنقدٍ مُتواصل.
توقّف «الجزيرة» عن مُهاجمة السعوديّة، هذا أمر واضح من خلال رصد شاشتها على مدار اليوم، لكن وزير الخارجيّة القطري قال في تصريحاته التي جاءت في مقابلة مع «فاينانشال تايمز»، بأنه لن يكون هُناك تغيير بما يتعلّق بسياسات قناة «الجزيرة»، وهو ما يطرح تساؤلات حول استمرار القناة بسياساتها التي تستهدف السعوديّة، والإمارات، فعدم التغيير، يعني مُواصلة النهج الهُجومي الذي يطال قادة خليجيين بعينهم، وما إذا كانت القناة القطريّة ستتوقّف عن استضافة مُعارضين سعوديين، وإماراتيين، وتمويل الدوحة لقنوات مُعارضة في تركيا، خاصّةً أن العلاقة مع الأخيرة لن تنقطع كما يقول الوزير القطري، إلى جانب بقاء القاعدة العسكريّة التركيّة في قطر.
الثابت بكُل الأحوال، أنّ ثمّة مُصالحة سعوديّة – قطريّة واقعيّة تمّت مُنذ لحظة عناق الأميرين تميم، وبن سلمان، وترحيب غير مسبوق من الأخير، حين قال لضيفه عند نزوله من باب الطائرة، أنورت المملكة، لكن معيار الثقة يبدو مُتفاوتاً بين قطر، والإمارات، والبحرين، فالوزير الإماراتي لا يزال يتحدّث عن اختبار ثقة للتأكّد، ويتحدّث عن الحاجة لمزيد من الوقت لاستئناف العلاقات الدبلوماسيّة، مع عودة التجارة، وحركة التنقّل خلال أسبوع.
وزير الخارجيّة القطري، يبدو هو الآخر وبلاده أقل ثقة بالإمارات والبحرين، وعبّر عن ذلك ضمناً، حين قال أو أعرب عن أمله في أن تتمتّع الأطراف في النزاع الخليجي بالإرادة السياسيّة نفسها التي يتمتّع بها السعوديّون، مُؤكّدًا أنه لو قاموا ذلك، سيجدون أنّ قطر لديها الإرادة السياسيّة المُشتركة.
هذا الاتّفاق الخليجي في العلا، الذي حرص مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وصهره جاريد كوشنر على إتمامه، وحُضوره شخصيّاً، طرح تساؤلات حول وجود توجّه سعودي – قطري للتطبيع مع «إسرائيل» بعد الاتّفاق، فإدارة ترامب هي مَن أجازت ذلك الخلاف، وهي من أرادت نهايته، وقد يُنتج هذا الاتفاق تطبيعاً خليجيّاً سعوديّاً – قطريّاً من مصلحة «إسرائيل» وفي آخر الخدمات الجليّة التي تُقدّمها إدارة ترامب الراحلة في أيّامها الأخيرة، ووزير الخارجيّة القطري لم يُجِب على هذا التساؤل بالنفي أو التأكيد، وهو الذي حرص على علاقاته مع إيران وتركيا، وسياسات قناة بلاده الأخطبوطيّة التي لن تتغيّر كما يصفها خُصومها.
في المحصلة، كانت قمّة العلا لحظةً تاريخيّةً فارقةً لمجلس التعاون الخليجي، لأنّ القرار بعقدها والمُصالحة «السّريعة» التي تمخّضت عنها، وما ترتّب عليها من فتحٍ للأجواء والحُدود، وعودة العُلاقات الدبلوماسيّة، لم تَكُن قراراً سِياديًّاً خَليجياً صِرفاً، وإلا ماذا كان يفعل «المُعلّم» كوشنر في أروقتها في وقتٍ تغلي بلاده بالأحداث الضّخمة، ويُواجِه «حماه» أعنف تَحدٍّ في تاريخه.
فعندما يقطع ترامب إجازته ويعود إلى البيت الأبيض، ويكتب أحد أصدقائه المُقرّبين جداً يُدعى واين روث في تغريدةٍ على «تويتر» أنّ «أمراً كبيراً سيَحدُث في شهر كانون الثاني الحالي، وأنّ ترامب لن يذهب دُون قِتال، ولن ينتهي قريباً»، فإنّ من حقّنا أن نقلق فما زِلنا نُؤمِن أنّنا أشقّاء رُغم رؤية البعض لغيرِ ذلك.
في الخِتام نخشى من تَبِعات المصالحة على المِنطقة وشُعوبها، وما يُمكِن أن يتَرتّب عليها من حُروبٍ ودمار وزهق للأرواح البريئة.. ونأمَل أن يكون حذرنا وقلقنا في غير محلّهما..