عازف الليل ترجّل عن صهوته الياس الرحباني
آمنة بدر الدين الحلبي
مع سكينة الليل وعلى تراتيل سمفونية تعزفها أنامل موسيقار الحب والمحبة تسللَ إلى سمعي صوت الأجراس تهزُ دقائقَ الأثير معلنة بدء الصلاة في معبد الجمال، معلنة الوداع لعازف الليل الذي ملأ العالم بتسابيح الإنسانية، وجمال تراتيلها، وتقديمها لأيقونات المعابد لِملءِ الفضاء الواسع بأجمل الألحان.
ترجّل عن صهوة الفن ثالث أعمدة الرحابنة تلك العائلة التي أسست لتاريخ موسيقي عريق في لبنان والعالم العربي، ووضعت بصمة مميّزة في سماء الإبداع الموسيقي مسارًا فنيًا متنوعًا ومتفردًا، فمزج بين التلحين والتوزيع وكتابة الأغاني الجميلة.
كان قائد أوركسترا مالئ الدنيا وشاغل الناس، غامر ونجح وتألق في تقديم أرقى الألحان بدءًا من المطرب اللبناني نصري شمس الدين بأغنية (ما أحلاها) حتى امتدت أعماله الموسيقية إلى العالم كافة بحس إنساني وأسهمت في ثراء ورقي الفنون العربية خلال القرن العشرين.
منحَ العالم همسًا جميلا موشحًا باللذة جعلته ينتشي فرحًا وحبًا وعشقًا، وقدّم مواكبَ الفن مثل سِرْب الحمام متلاحمًا متسقا في اللحن والنغم والكلمة، فعزف على أوتار القلوب حتى غدت مثل كُتبٍ مقدسة بلا أخطاء ولا تجاعيد. وغدتِ الوجوه كونًا مؤنثًا بالمعاني، حين سمعتْ تراتيلَ أنامله، واستحالتْ صومعته إلى معبدٍ موسيقي هبطتْ عليه نبوءةٌ من السماء تردّدُ هو ذاك عالم الفن والموسيقى، قدَّم للعالم إرثًا موسيقيًا من الكلمات والألحان والغناء.
لحّن أكثر من 2500 أغنية ومعزوفة، 2000 منها عربية. وألف موسيقى تصويرية لخمسة وعشرين فيلمًا، منها أفلام مصرية ومسلسلات ومعزوفات كلاسيكية على البيانو من أشهرها موسيقى فيلم دمي ودموعي وابتسامتي، وفيلم أجمل من حياتي، ومسلسل عازف الليل.
وعلى سنابل العمر أهدى للأيقونة فيروز العديد من الأغنيات كلمة ولحنًا لتهمس لنا كل صباح دخلك يا طير الوروار، رح لك من صوبهن مشوار، وسلم لي عالحبايب وخبرني بحالهن شو صار… «كان عنا طاحون، كان الزمان، ياي ياي يا ناسيني، قتلوني عيونا السود، بيني وبينك، ما نقول خلصنا».
وخطا على مسارات الشوق في جعبته لحن الحياة للصبّوحة فغزل لها سمفونية العشاق في «كيف حالك يا أسمر، ياهلي يابا، وشفته بالقناطر».
وعلى هزيز الريح حمل العديد من ألحانه لصاحب الصوت الجبلي والجميل وديع الصافي، وانحنى الزهر أمام الراحل ملحم بركات، كما لحن للجيل الحديث باسكال صقر، وجوليا بطرس.
لم يقتصر تاريخ الياس الرحباني على الموسيقى وحسب، وإنما ألف عددًا من المسرحيات، مثل: سفرة الأحلام، وادي شمسين، كما أصدر كتاب نافذة العمر عن الشعر.
وعلى جنبات الحنين لاذ بجوائز عديدة تكريماً لفنه مثل: جائزة مسابقة شبابيّة في الموسيقى الكلاسيكية وجائزة روستوك بألمانيا، وجائزة مهرجان أثينا عام 1970، وشهادة السينما في المهرجان الدولي للفيلم الإعلانيّ في البندقية.
كرّمته عدد من الجامعات، مثل: جامعة أستورياس في إسبانيا وجامعة بارينجتون في واشنطن، وبعد تأسيس أكاديمية روتانا لتعليم الغناء في عام 2004 عين عميدًا لها، ولكنه لم يلبث أن قدّم استقالته، معللًا بأنها كانت تشرع في اتخاذ العديد من القرارات من دون استشارته.
مهما تكلمت عنه لن أفيه حقه لأن صوت أنامله سرح لعالم الجمال وأبدع في سمفونيات استثارت الروح، وأشعلتْ الخيال، فتشكَّل اللحن..
غادر عازف الليل بعد أن ترجّل عن صهوته عن عمر 83 عاماً نتيجة إصابته بفيروس كورونا المستجدّ (كوفيد ـ 19) الذي عاث في العالم قاطبة تدميراً وقتلاً وفقراً وجوعاً.
غادر عازف الليل بعد أن أمطرنا بجمال غيثه، وترك لنا ودقًا من ألحانه، ووابلاً من سمفونياته تهز الروح والوجدان على بيادر العطاء.
غادر عازف الليل، لكن صوته بقي يغرد كل صباح ومساء يتسلّلُ من بين همس الحياة تردده أيقونة اسمها فيروز.