الدولة انتهت والسؤال: أين الناس؟
} د. وفيق إبراهيم
هذا سؤال طبيعي جداً نتيجة لما آلت اليه ادارة هذا الانهيار الاقتصادي بعد انفجار المرفأ قبل خمسة أشهر تقريباً وكأن بهذه الإدارة السيئة تترقب انفجاراً آخر يمحو كامل مسؤوليتها عن الانهيار الاقتصادي – السياسي الذي بدأ مع مرحلة الحريرية السياسية في مطلع التسعينيات.
لذلك فإن السؤال الآن هو أين الناس الذين تقع عليهم حالياً مسؤولية تأمين بديل موضوعي بوسعه وقف الانهيار والبحث عن سبل مواجهته.
قد يعتقد البعض أن هذه المسألة بسيطة. لكن المباشرة بتفسير معنى الناس في السياسي تتبين صعوبة الموضوع.
فهؤلاء هم الأحزاب والنقابات والإعلام والتنظيمات والأديان الذين يتحرّكون تلقائياً عند الأحداث الداخلية البنيوية.
هنا تكمن المأساة، فالأديان ممسوكة من الطبقة السياسيّة بمعنى أنها لا تتحرّك لإدانتها بل لتأييدها على حساب الناس ومصلحتهم والتنظيمات التابعة للمهن، هي اشبه بواجهات تجميلية تنقسم بين قوى الدولة ولا تعتمد إلا سياسة الصمت دهراً والنطق كفراً.
أما وسائل الإعلام وخصوصاً المرئية منها فهي آليات في خدمة تنوّعات الطبقة السياسية، والنفوذ الغربي – الخليجي.
فهي تنتقد فئة سياسيّة ما لأنها لا توالي الخارج الذي يموّلها، وتقوم سياسات عرض الأحداث عندها، على نقل ما يدين الفئات الأخرى من الطبقة السياسية وهذا يعني أنها تنقل ما يخدم سياسات مموّلها من أحداث وأخبار، بذلك تسقط أدوارها الإيجابية لتبقى محصورة ضمن فئات الطبقة السياسية الحاكمة ومعادية لأقسام اخرى منها.
ماذا عن النقابات؟ هذه واحدة من افضل الآليات كما يكشف التاريخ التي تقود الناس خصوصاً في أوقات المحن.
لذلك منعت الدول العربية تأسيس النقابات، فيما سمحت دولٌ قليلة منها بتأسيس نقابات إنما موالية دائماً للنظام ويجري استعمالها لتحشيد حركات التأييد للرؤساء والزعماء والتصفيق والهتافات، كما كان يحدث في ليبيا والعراق ومصر والسودان.
لقد شكّل لبنان استثناء عربياً لأنه سمح بتأسيس نقابات فاعلة عبرت عن مصالح الفئات التي تمثلها في الستينيات وحتى مطلع التسعينيات.
لقد أدت هذه الآليات دوراً طليعياً في تجسيد مصالح الناس الى ان انتهى دورها في مرحلة الحريرية السياسية التي أسست نمطاً بدوياً في الحكم يقوم على ولاءات شخصية بين حاكم عظيم يعطي ويمنع على طريقة قدماء السلاطين ممن كانوا يعتقدون أن المال او الناس والأملاك هم ملك السلطان لا ينازعهم أحد عليها.
ماذا عن الأحزاب؟
لبنان واحد من أكثر البلاد العربية إنتاجاً للأحزاب التي غطت كل الايديولوجيات المعروفة في الشرق والغرب والعقائد المسيحية والإسلامية والعربية لكن مرحلة الانهيار الفلسطيني في لبنان في الثمانينيات وصولاً الى عصر رفيق الحريري ألغت معظم الأحزاب وحوّلت ما تبقى منها الى وكالات للولاءات والالتفاف حول السلاطين.
لا شك في أن هذا الوضع المزري يكشف مدى صعوبة تحرك اللبنانيين لطرد آخر ما تبقى من دكتاتورية السلطة الداخلية. فالأحزاب تدجّنت والنقابات اختفت والإعلام تحوّل أداة لإلغاء العقول المتحركة وتجميدها عند نقطة الولاء للسلطان.
وأصبحت التنظيمات وكالات لبيع المفروشات ترتدي ربطات عنق.
اما الأديان فنجح محركوها في عملية ضمها الى آليات السلطة وتحويلها الى ممارسات فقط لا علاقة لها بأية مشاعر بشريّة.
هذا هو لبنان الحالي الذي أضيف إليه إفلاس اقتصادي يجعل الناس تتمسك بولاءاتها خشية طردها من وظائفها بما تعنيه من أنها آخر مكان لتأمين العيش.
فهل يمكن للبنانيين الانقضاض على الطبقة الحاكمة في ظل هذه المناخات؟
الحقيقة أن اللبنانيين الحاليين يفتقرون الى الأحزاب والنقابات التي تقود عادة حركات التغيير الكبرى.
هذا بالإضافة الى ان الدور المباشر للسفارة الاميركية في نصب علاقات مع مجموعات شعبية كانت تتحرّك على شكل ضغوط تسعى للتحول الى ثورة. هذا الدور الأميركي الغربي الخليجي عطل ولادة حركات شعبية صحيحة ممتصاً قوتها ودافعاً بها الى أسفل سافلين.
فبعدما كانت مجموعات واعدة تنتظم على وقع الحراك الشعبي أصبحت مجموعة من الحركات الصغيرة التي تؤدي أدواراً في خدمة السفارات.
هذا الوضع يجعل الطبقة السياسية بأنواعها كافة والناس في آن معاً ينتظرون المبادرات الخارجية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ضمن هذه المعطيات تتضح الاسباب التي تؤدي الى عجز اللبنانيين الى أن يتبين أخيراً لهؤلاء الناس ان مواصلة التصدي للمبادرات الخارجية وخصوصاً الاميركية منها هي افضل الوسائل لتأمين الصمود الداخلي، لذلك فإن الاستمرار في تراكم عمليات التصدي للطموحات الاميركية الإسرائيلية في جنوب لبنان والمشاريع السعودية – الإماراتية التركية في الداخل هي عمليات تؤدي الى ولادة أدوات خنق الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان والانتهاء منها دفعة واحدة.