دعم الفقراء والإنتاج لا الأغنياء والاستهلاك والاستيراد…
القنصل خالد الداعوق*
ليست جديدة الأزمة الاقتصاديّة والماليّة التي يعيشها لبنان اليوم، إنما الجديد فيها أنها وصلت إلى مرحلة خانقة تضغط بشكل غير مسبوق على الغالبية الكبرى من اللبنانيين. وهي تعود في جزء كبير منها إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، أيّ بعد انتهاء الحرب الداخلية المشؤومة بين اللبنانيين، وانطلاق ما سُمّيَ مرحلة إعادة الإعمار والبناء والإنماء.
وقد تمّ في ذلك الوقت وضع سياسة اقتصادية ومالية قائمة على الريع والفوائد الخيالية والمضاربات المالية والعقارية، وذلك على حساب قطاعات الإنتاج، وخاصة الصناعة والزراعة، علماً أنّ هذه القطاعات هي التي تمثل الاقتصاد الحقيقيّ ومن إنتاجها يأتي النموّ المستدام والتنمية الشاملة.
لم يطل الأمر كثيراً حتى بدأت تظهر عورات تلك السياسة، خاصة بعدما خاب الرهان على ما قيل إنه “سلام” آتٍ إلى المنطقة، حيث اضطر المراهنون إلى إدخال تعديلات على برامجهم وخططهم، ولكن ليس لمصلحة الإنتاج كما يُفترض بل أتت التعديلات في سياق السياسة نفسها، فتمّ رفع الفوائد على سندات الخزينة حتى وصلت إلى نحو 45 في المئة قبيل تمديد ولاية رئيس الجمهورية الياس الهراوي عام 1995 لثلاث سنوات إضافية.
ولأنّ أرقام الدين العام وفوائده ارتفعت كثيراً، خرج واضعو الفذلكات بنظرية سُمّيت “إعادة هيكلة الدين العام”، وقد جرت ترجمة هذه الفذلكة في مشروع موازنة العام 1997 حيث طلبت الحكومة من المجلس النيابي أن يجيز لها إصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية بحجة أنّ الفوائد على هذه السندات أقلّ من الفوائد على السندات بالعملة الوطنية. وشهدت الجلسة النيابية التي خُصّصت يومها لمناقشة الموازنة جدالات حامية بين عدد غير قليل من النواب المعارضين أبرزهم الرئيس “الضمير” الدكتور سليم الحص، حيث رفض المعارضون الأمر بالمطلق لأسباب عدة أوّلها أنّ ما هو مطروح ليس إعادة هيكلة للدين العام بل هو دَيْن جديد من شأنه أن يحمّل الخزينة المزيد من الأعباء، ثمّ أنّ الدين بالعملات الأجنبية له مخاطر عالية جداً على أيّ اقتصاد فكيف على اقتصاد متهالك كاقتصادنا؟…
وقائع تلك الجلسة موثقة بالصوت والصورة لمن يرغب في العودة إليها، وسُمِعت خلالها أصوات عدد من النواب البعيدي النظر يحذرون من أنّ سماح المجلس النيابي للحكومة بالاستدانة بالعملات الأجنبية يعني أنّ البلد مقبل على كارثة محتّمة. ورغم ذلك صوّتت غالبية البرلمان مع مشروع الموازنة العامة، ليشكل ذلك سابقة خطيرة جداً أوصلتنا فعلاً إلى الكارثة التي نعيش في خضمّها اليوم.
ولأنّ الاستمرار في السياسة نفسها يوصل إلى النتيجة نفسها، لم يطل الأمر كثيراً أيضاً حتى صارت الخزينة العامة بحاجة إلى جرعة جديدة من الدعم بالعملات الأجنبية، فكانت مؤتمرات باريس 1 و2 و3، ودائماً دَيْن جديد يُضاف إلى ما قبله وتتراكم الأرقام بملياراتها فوق كاهل اللبنانيين الذين لم يعرفوا إلى الخلاص منها سبيلاً.
واستمرّ الدوران في الحلقة المفرغة… استدانة لتغطية العجز وزيادة في العجز تتطلب المزيد من الاستدانة! ورغم الشعارات الكثيرة لم يُتخذ أيّ إجراء جدّي على طريق تفعيل اقتصاد الإنتاج تمهيداً للتخلص تدريجياً من اقتصاد الريع، بل ما كان يحصل هو العكس، وكانت تحويلات المغتربين وعائدات القطاع السياحيّ إضافة إلى المليارات التي تتمّ استدانتها سنوياً تظهر بعض الفائض في ميزان المدفوعات، إلى أن جاء العام 2011 حيث تحوّل الفائض إلى عجز نتيجة أحداث ما سُمّيَ “الربيع العربي”، وخاصة أحداث سورية، ما استدعى المزيد والمزيد من الاستدانة حتى كان العام 2016 وهندساته المالية المشبوهة التي أعادت الروح اصطناعياً إلى ميزان المدفوعات وقلبت أرقام العجز إلى فائض، لكنها في الوقت نفسه خطفت أنفاس الاقتصاد وزادت “الكربجة” في عجلات الدورة الاقتصادية، وأدّت في ما بعد إلى إعدام الودائع المصرفيّة وحرمان أصحابها منها، فيما أركان المافيا السياسية والمالية والمصرفية وبعض رجال الدين هرّبوا أموالهم إلى الخارج من دون أن يسألوا لا عن قانون ولا عن ضمير ولم يكن لديهم ذرّة من الحسّ الوطني.
وبعدما وصلنا إلى الحضيض ها هو “الجهبذ” حاكم مصرف لبنان يخرج بنظرية “تحرير سعر صرف العملة الوطنية”، وهو إجراء صحيح في المبدأ لكنه خاطئ في التوقيت، ولو تمّ قبل 25 سنة لانقلبت الأمور رأساً على عقب ولما وصلنا إلى هذه الأزمة الخانقة التي نواجهها اليوم، أيّ كان يجدر تحرير سعر الصرف ووقف دعم العملة الوطنية حين كانت الأموال تتدفق إلى البلد وحين كانت الدورة الاقتصادية نشطة إلى حدّ ما، يومها كان بالإمكان ترك الحرية للسوق لكي يحدّد ليس فقط سعر صرف العملة بل أيضاً والأهمّ ترك الحرية للسوق لكي يحدّد قيمة الفوائد المصرفية من دون تدخل يجعل هذه الفوائد خيالية، بسبب السياسة النقدية الخاطئة التي اتبعها المصرف المركزي، والتي يتراجع عنها اليوم في أسوأ الأوقات.
وهنا يأتي الحديث عن انعدام قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في سياسة دعم سلة السلع الأساسية التي بدأها قبل أشهر واستنزفت بضعة مليارات من الدولارات كان قد حجَبها عن المودعين بالتعاون (حتى لا نقول بالتواطؤ) مع المصارف. غير أنّ هذا الدعم لم يصل منه إلى العائلات المحتاجة إلا القليل، فيما نشط التهريب إلى خارج لبنان، كما استفاد المستوردون أنفسهم الذين أخذوا يخزنون جزءاً غير قليل من البضائع المدعومة لبيعه لاحقاً بأضعاف مضاعفة، هذا فضلاً عن الشرائح الاجتماعيّة الميسورة وهي ليست بحاجة إلى الدعم.
الآن وصلنا إلى نقطة مفصليّة حيث لا أموال تكفي للاستمرار بسياسة الدعم، وفي الوقت نفسه لا يجوز وقف الدعم في ظلّ هذه الأوضاع الصعبة والخانقة. إذن لا بدّ من ترشيد هذا الدعم لكي يكون محصوراً بمن يحتاجون إليه فعلاً، ومن أجل ذلك يُفضَّل أن يتمّ إصدار بطاقة تموينية تُوزّع على الذين ليس لديهم أيّ مدخول والذين تأثرت مداخيلهم بسبب تدنّي سعر صرف العملة. وعملية إحصاء هؤلاء ليست صعبة إذا تمّت الاستعانة بالجيش اللبناني ومعه البلديات والمخاتير حيث كلّ الناس يعرفون بعضهم بعضاً ولا مجال للزعبرة أو للتحايل، وإذا حصل شيء من ذلك تكون كلفته محدودة من جهة، ومن جهة أخرى يكون كشف التلاعب أسهل بكثير من كشف المستفيدين حالياً من الدعم الذي يكلف مليارات الدولارات.
وبالتزامن مع إطلاق الآلية الجديدة التي تستهدف دعم الفقراء والمحتاجين فعلاً لا الأغنياء والمقتدِرين، يجدر أيضاً إطلاق آلية جديدة لدعم الإنتاج، واتخاذ خطوات عملية للانتقال من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج.
وفي هذا السياق لا بأس لو عدنا قليلاً إلى الوراء واستعدنا تجاربنا الناجحة في دعم الإنتاج يوم كان عندنا منذ خمسينيات القرن الماضي وربما قبل ذلك مصارف متخصّصة بدعم الزراعة والصناعة والسياحة، ولا ضير لو خصّصنا لها بعض الأموال التي سوف نوفرها من عملية ترشيد الدعم، لأنّ دعم الإنتاج سيعيد لنا المبالغ التي خصّصناها للدعم أضعافاً مضاعفة، على عكس المليارات التي ضاعت في دعم الاستهلاك والاستيراد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أمين عام منبر الوحدة الوطنية.