تمركز المال = الجوع والانهيار
بشارة مرهج*
بعدما وصلت الأمور الى ما وصلت اليه مما يعرفه القاصي والداني – سياسياً ومالياً وصحياً وقضائياً – حان الوقت لتبني سياسات واضحة مصحوبة بإجراءات صارمة تضع حداً للتداعي والانهيار وتكفل حماية المجتمع والدولة والجمهورية.
صحيح أنّ تحالف المال والميليشيات الذي تسبّب بهذه الهزيمة أثبت فشله في إدارة الأمور وأكد عجزه عن النهوض والتصحيح، إلا أنه من الصحيح أيضاً انّ هذا التحالف، الذي يشكل واحداً بالمئة من اللبنانيين، يمنع اليوم تنفيذ إصلاحات بديهية اتفق عليها الشرق والغرب، ويرفض مغادرة مقاعد السلطة التي تدرّ عليه اللبن والعسل وتمنحه الحصانة بوجه القانون.
وقد تجلى كلّ ذلك في مناورات متتالية قام بها هذا التحالف لإجهاض الخطة المالية، وتعطيل التحقيق المحاسبي الجنائي في حسابات البنك المركزي، وعرقلة التحقيق القضائي في قضية تدمير المرفأ وقسم كبير من عاصمة البلاد، فضلاً عن استنزاف ما تبقى من احتياط لدى البنك المتمرّد، حيث صبّت أكثرية أموال الدعم في جيوب الكبار من تجار ومصرفيين ومتواطئين.
وإذ أفلت المجرمون ولصوص المال العام وناهبو الودائع من العقاب وباتوا يتنافسون في إعطاء الدروس يميناً وشمالاً عن كيفية رأب الصدع وإعادة بناء الصروح والمؤسسات، فإنّ البلاد لم تشهد خطوة إيجابية واحدة تعيد جزءاً من الثقة المفقودة أو تشكل بصيص أمل للخروج من الأزمة المركبة التي تسبّب بها هؤلاء الذين تهمّهم ذواتهم قبل كلّ شيء.
واذا كان من البديهي استمرار النضال لإسقاط الطبقة الحاكمة (الموجودة في المصارف والبنك المركزي والحكومة والمجلس النيابي الخ…) التي فرّطت بالأمانة وسمعة لبنان، واستهانت بالمساءلة والتصحيح، فمن البديهي أيضاً إجراء مراجعات نقدية لمسيرة الحركة الشعبية وانتفاضتها المباركة لاستخلاص الدروس والعبر التي ترفد العملية النضالية بالزخم والقوة في مواجهة هذه الطبقة التي تمرّست بالمراوغة واشتهرت بالتعطيل وشراء الضمائر.
واذا كان الأمر يحتاج الى بلورة برنامج مرحلي للمسيرة الشعبية في المرحلة المقبلة بالتزامن مع إجراءات وتدابير تنظيمية ترفع من مستوى الأداء، فإنني في هذه العجالة أودّ التركيز على نقطة محورية مهمة أدعو كلّ الفئات والشخصيات المناهضة لزمرة الواحد بالمئة الى التفاهم عليها والالتفاف حولها لتحقيق نقلة نوعية في عملية الصراع الحتمي والمستمرّ لاستعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة المسؤولين والنهوض بالاقتصاد وتحويله الى اقتصاد منتج متوازن.
وهذه النقطة تتعلق باستيلاد تفاهم شعبي عام لمحاربة عملية احتكار الثروة والمال في المجتمع ومراكمتها بأيدي قلة فاجرة لا تقيم وزناً لحقوق الآخرين او لآلام اللبنانيين ومحنة بلدهم التي تتفاقم يوماً بعد يوم…
لكلّ ذلك ينبغي أن يكون الهدف المركزي للمجتمع اللبناني في المرحلة المقبلة العمل بكلّ الوسائل لمنع تراكم الثروات الطائلة في أيدي قلة من المحتكرين سواء كان هؤلاء من السياسيين او بقايا الإقطاعيين او من تجار الموت والأسلحة. مع التحذير الدائم بأنّ تمركز الثروة يحدّ من حرية الأكثرية ويعزز قدرة الأقلية على التحكم بمفاصل الحياة في المجتمع وسحق القوانين وممارسة الديكتاتورية، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، بما يحرم الأكثرية من فرص العمل ويعرّضها للجوع والهوان.
والسؤال الآن كيف يمكن للمجتمع حظر مراكمة الثروات الطائلة التي تخل بالميزان الاقتصادي والاجتماعي؟ يكون ذلك بالضغط المتواصل على مجلس النواب سواء بالبيانات أو الاتصالات او المظاهرات لحمله على سنّ قوانين جديدة تمنع الاحتكار وتراكم الثروة الهائلة وفي مقدّمها قانون جديد للضريبة التصاعدية المباشرة على الأرباح والثروات. على أن يكون هذا القانون ومراسيمه التنظيمية واضحة في تحديد سقوف متدرّجة للضريبة تسهم في إعادة توزيع الثروة وإشاعة أكبر قدر من المساواة في البلاد بما يسمح بمزيد من الادخار والاستثمار في القطاعات الإنتاجيّة وإعادة التوازن للاقتصاد والبلاد.
الكلّ يتكلم عن الضريبة التصاعدية وهي موجودة في المنظومة التشريعية اللبنانية، ولكن حان الوقت لإجراء التعديلات المطلوبة عليها وتنفيذها فعلياً على الأرض بعيداً عن المساومات والتسويات والإعفاءات التي تزكم الأنوف وتلوث سمعة لبنان واللبنانيين.
*نائب ووزير سابق.