مقالات وآراء

الرفيق جوزف الصايغ وجه حزبي نضالي في المحيدثة – بكفيا

لفتَ انتباهي وأنا أتصفّح العدد 836 تاريخ 16/5/1992 من مجلة «البناء» التغطية الواردة في الصفحتَين 14 و 15 عن التشييع الحاشد الذي أُقيم في المحيدثةبكفيا للرفيق جوزف الصايغ.

ندعو كلّاً من مديرية الحزب في المحيدثة، وحضرة الأمين د. جهاد العقل أن يضيفا إلى هذه النبذة ما يفيد سيرة ومسيرة الرفيق جوزف الصايغ.

*

شيّعت منفذية المتن الشمالي في الحزب السوري القومي الاجتماعي الرفيق الفقيد جوزف الصايغ، الذي توفي عن عمر قضاه في النضال، حاملاً مشعل النهضة القومية الاجتماعية عاملاً على توسيع وهجها، في صفوف مواطنيه كما في بيته وعائلته.

وقد جرى الاحتفال بتشييعه في بلدة المحيدثة، حيث كان هُجّر في السابق من منزله الواقع بين الشاوية والفريكة.

وحضرت وفود من المواطنين الذين زرع رفيقنا الفقيد المحبة في نفوسهم والاحترام لمبادئ النهضة.

تكلّم في حفل التأبين ناظر التربية في المنفذية الرفيق أنطون خوري، وأبّنه بِاسم مركز الحزب الأمين غسان الأشقر.

كلمة الأمين غسان الأشقر

«كان يزورنا كل يوم تقريباً. يأتي ساعة اليقظة المبكرة جبلاً بين الرجال، كتلة من الحيوية الدافقة وجمهرة من الأخبار والمشاريع والاقتراحات. وجهاً صبوحاً، وقلباً طافحاً بالمحبة والإيمان والثقة بالمستقبل. ما أن يستقر به المجلس حتى تدبّ من حوله الحياة، تحتدم النقاشات وتتعالى وتيرة الأصوات والضحكات. ثم يقف، يودع ويختفي بلمحة، فيقع الصباح من جديد في هدوئه الرتيب.

وسألت والدي من يكون هذا الوافد الصباحي، هذا المقتحم اليومي، هذا العاصف الودود، فقال: أنه جوزف الصايغ، الأخ والصديق والمجاهد الدؤوب والرفيق الحبيب.

تنامت مع الأيام معرفتي بجوزف الصايغ، عرفته عن كثب وهو يقتحم مع القوميين دربهم الصعب الطويل، عرفت صبره وصلابته وعرفت شجاعته وثبات خطوه، وخبرت أيضاً عظيم محبته وإيمانه المطلق بأصالة مواطنيه، وتوقهم إلى التوحّد وإسقاط الحواجز المفتعلة في ما بينهم.

كان قومياً اجتماعياً بالفطرة، قبل أن يكون بالعقل والفعل المنظم؛ ذلك لأن جوزف الصايغ هو بطبيعته رجل علاقات وتفاعل مع الآخر. كان رجل محبة. يفتش عمّا يجمع ويحارب ما يفرّق ويناقض، لذلك اختار عقيدة الوحدة الاجتماعية والسّلم الأهلي، عقيدة سعاده، وناضل ضدّ عقائد الفرز والتصنيف التي تقود المجتمع الواحد، وقد قادته بالفعل إلى التنافر والتآكل والتذابح.

وفجأة انفجر الحقد الأسود وانداحَ على لبنان كلّه، وخرجت الهواجس الطائفية والأحقاد المذهبية ومشاريع التقسيم والتفتيت من سراديبها الدهرية، فارتفعت بين المناطق سدود وبين الناس حواجز الذبح والخطف والتشويه. خرجت من أوكارها الزعامات الظلامية تؤجج نيران الفتنة وتدفع الشعب إلى نفق الحرب الانتحارية، فسادَ الويل والظلم والدمار تحت شعارات برّاقة ووعود مزيّنة مزخرفة وجنّات موعدة. فانزوى الناس وانكفأوا وتباعدوا وسكتوا تحت وطأة الإرهاب المنظم والطغيان المسلح.

وفي هذا الجبل الأشمّ بالذات، في هذه القرى المطمئنة المنثورة كحبات القلب على السفوح والمنحدرات، في هذا الجبل الرائد الذي أعطى أمين الريحاني وجبران، ونعيمة والمطران يوسف الدبس واليازجيين والبساتنة، وخليل الحاوي وخليل سعاده وغيرهم كثيرون ممّن أبدعوا فنّاً وأدباً ولغة وتاريخاً وفلسفة وانفتاحاً وعلمنة ووحدة ورجال سياسة وقانون. والذي أعطى أنطون سعاده زعيماً فذّاً ورمزاً للكفاح المرير وبانياً للوحدة القومية والاجتماعية، ومنادياً وساعياً ومستشهداً في سبيل السلام الأهلي، وفي سبيل هدم الحواجز المصطنعة بين أبناء الشعب الواحد وفي سبيل إقامة الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة، في هذا الجبل بالذات تحكّمت قوى الزعامات الظلامية الجاهلة العاتية. وماذا فعلت؟ ماذا فعلت بحلم جوزف الصايغ، حلم المحبة والتآخي والتفاعل والانفتاح. ماذا فعلت وقد استتبّ لها الأمر وفرزت خارج مناطقها الجغرافيّة أو قتلت أو أخضعت كل من تعتبره من غير لونها الطائفي والعقائدي. لقد مارست أبشع أنواع التنكيل، فاستُبيحت الأعراض والأملاك والأرواح. قهروا وأذلّوا وداسوا الكرامات. لكننا لا نقول ذلك طلباً لانتقام أو تأجيجاً لغرائز، بل فقط لنعي جميعاً كما وعى جوزف الصايغ أن لا خلاص لنا، لا خلاص للبنان شعباً وأرضاً إلّا بالإخاء القومي وسلم المجتمع مع نفسه.

لقد هال جوزف الصايغ أن يرى أحلامه تنهار، وحاول ما استطاع ضمن دائرته وقدرته أن يقرّب ما تباعد وأن يحاور ويهدم السدود ويعزّز التضامن ويقفز فوق الحواجز المفتعلة، لكنه لم يستطع أن يردّ الكارثة فانفجر من الداخل تعباً ومعترضاً.

ولقيته بعد أن انهارت سدود الحقد، ذهبت لزيارته ذلك الجبل من الرجال، ذلك الأخ والصديق والمجاهد الدؤوب والرفيق الحبيب. تحامل على نفسه وبكى واستعصى عليه الكلام، لكنه قال الكثير دون أن يفوه بكلمة. رأيت في عينيه مأساة لبنان، مأساة هذا الجبل، ورأيت في عينيه المحبة وأنوار الأمل بالمستقبل. في يوم وداعه لا تبكوه، بل تذكروا معه، وهذا يكفيه، أنّ عقائد الفرز والطائفية هي عقائد الموت والاندثار، وأنّ عقائد الوحدة هي عقائد الحياة، ومن امتلك سرّ التوحيد امتلك سرّ الحياة الخالدة المستمرة. امتلك جوزف الصايغ هذا السرّ وهو بيننا حيّ باق. في يوم وداعه لا نبكيه، ولا نعزّي، بل نرفع إليه بِاسم زوجته وأولاده وبِاسم رئاسة الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبِاسم رفقائه وبِاسم محبيه، نرفع بكل احترام تحية المحبة والنضال لهذا الفارس المجاهد الصديق. والبقاء للأمة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى