حروف الأبجدية والحروف الموسيقية
} علي اليسوعي
اثنان لا يتغيّران الحروف الأبجدية والحروف الموسيقية، الحرف فنّ يصنع فنون الكلام.
ولد الحرف من رحم الإنسانية التي لبست اسم الهوية،
وكم من الأزمنة مرت على ولادته، ولم يتغيّر. منه تصاغ أجمل أو أبشع الكلمات، أبسطها وأصعبها، منها ما يخلد ومنها ما يجلد ومنها ما يُرمى لتدوس عليه الأقدام، منها ما يحيا بعد موت كاتبه، ومنها ما يعيش الآنية واللحظة، لتموت قبل أن تولد،، منها ما يحيا في أحلامنا، ومنها ما يحزن لأحزاننا، ومنها ما يرافق أفراحنا، ومنها ما يحيك أسماءنا، ومنها مثل حدائق الشتاء، لا تهنأ بألوان الورود والزهور، وقدرها أن تبقى تحت القبور، ومنها تصلب فوق السطور، منها يسافر مع الغيوم لتأتي يوماً مع المطر، منها يبحر مع الضباب، لتبتعد ويصيبها الضياع، مثلما من يرمي في البحر حجر…
هي الحروف سجينة الكلمات، هذه التي تولد لترافق الفقراء، بفقرهم، الجياع بجوعهم، العشاق بعشقهم، تعيش مع اللاجئين والمشرّدين بخيامهم، تذرف من عيون أمهات ثكالى، وتنام مع أطفال يتامى، وترتدي سترة جندي ومقاوم، وتجالس الحق في المحاكم، ولا تخجل أن تسمّي الظالم ظالماً، وأرخصها يسخر سلعة للشتائم.
هي صلاة مؤمن ودعاء ناسك، هي أجراس الكنائس وأصوات المآذن، هي السلم والحرب وما في قلوب الناس ساكن، هي الفصول ومواسمها، هي شقائق النعمان، وزهور الأقحوان، هي الأشجار والثمار، هي الزيتون، والليمون، وعناقيد الكروم، هي الأمواج والبحار، هي الدفء والشمس، هي الليل والنجوم والقمر، هي الأوجاع، وفرحة قلوب البشر، هي الشعر والنثر، والخطابة، ودموع تتساقط فوق حدّ الشفر، هي الأغاني، هي الحقد والحب في ثوان، لتأتي أبجدية الموسيقى لتحاكي النفس البشرية، بالألحان والنغم، متكلمة بلغة تفهمها كلّ الأجيال، ولا يحدّها زمان أو مكان، هي حوار الروح مع خالقها، هي لغة تخاطب القلوب، بالفرح أو الحزن، بالحب، والشوق، لتنصهر فيها محبة الإنسان للإنسان، وتتقدّس لأنغامها الأوطان، تتآخى مع التاريخ، لتتسابق مع الجغرافيا نحو العالم بأسره، هي لغة الإله مع مخلوقاته، من هنا من فوق هذه الأرض، ولدت حروفها لتخاطب السماء، هي أصوات الملائكة، وضحكات الأطفال، وثغاء الحملان، وصرخة جريح وأمنية شهيد، هي نشيد وطن، هي زقزقة العصافير، وهدير البحر، وهدوء الينابيع،
هي سمفونيات الخلود، هي أمّ الرقصة البشرية المتحرّرة من قيود الجماد، هي الصمت بأجمل ألحانه، وخلود النفوس التي حرّرتها الأبدية من الموت، لنتوارثها بدون ثمن، هي الهواء الذي نتنفس، والشمس التي تدفئنا، والليل الذي يسهر لننام، هي القمر الذي يحرسنا لنحلم، هي التي تزهر الأصوات من الحناجر، مثل البراعم، هي الإنسان المولود من رحم المشاعر، والمتخرّج من مدرسة الحياة، متدرّجاً من دفء بيت صغير إلى جامعة وطن أكبر، ومنه إلى الكون الساكن في حضن الإنسانية المتألمة من حقد البشر!
من هو الإنسان الذي يخفي حزنه ليفرح أخاه الأنسان؟ هو الإنسان الذي يسقي قلمه من جراحه، لبلسمة جروح الآخرين، هو الشهيد والمقاوم، هو عرس الأرض، وخيرات المواسم، هو زغردة انتصار الحق من حاكم ظالم، هو تراتيل الميلاد والصلب والقيامة، هو الإنسان الذي حفظ أبجدية الحروف، لينثر الكلام كصحافي انتمى إلى الأرض التي كانت رحماً لهذا الحرف، هو شهيد الكلمة المتوجّعة، أبكى وبكى حين افتتح بصوته خبر مجازر قانا، حيثما الحروف تجسّدت في الكلام، لتلد صوت الحق في زمن الأباطيل والخيانات، في زمن سخروا النفوس الساقطة، ليسلبوا الوطن، وتبقى الكيانات، هذا الذي تركنا، من جنوب لبنان ليبقى علياً خالداً فوق السطور وبين الكلمات، رحل العلي ليبقى علماً، ولكلّ من يحمل قلماً، هو الصحافي الوطني علي المسمار، هذا الذي كلماته دقت كالمسامير في قلب حاقد،، ومن الثالوث الرحباني، من أبجدية الموسيقى، واللحن الأزلي الخالد، ترك الأرض، عبقري من بلادي، وها هي أبجدية الموسيقى تبكي على قائد، يا وطني ها أنا أنعى علي الكلام، واليأس الموسيقى، اليك في يوم واحد، وانت وحدك لخلودهما شاهد…