مكابـدات تعبـث بـروح شـاعر
} الشاعر مصطفى بدوي – المغرب
نهر الندم
كان يعبث بالطمي حين فاجأه مطر وحنين..
الفراشات كلّها اشتعلت في صدره كما كانت تقول له صديقته الألمانية في هايلدبيرغ ….
وانتحى جانباً ثم استوى على عرش الندم!
***
الجزيرة الخضراء
في شوارعها تذكر أحصنة وغباراً وخسارات لا تحصى
أجهش في زاوية ما وصحا لا يفقه إن كان هنا يوماً أم شط به الهذيان !
***
طنجة
في حانة تطلّ على البحر
توسّد صمته وارتقى مدناً من عطش
كانت رغوة الكأس تُغري جموح أضلعه الواهنة
وعلى وقع زخات المطر كان فاجنر يختفي ويعود
ووحده الدبيب كان يجرّه نحو العدم !
***
أكاير
في مقهى «اداوتنان»
الليل
والريح
وبقايا مطر..
مطر على سفر
سفر من ضجر
ضجر في ضجر
في مقهى اداوتنان
تهاوت في صدره سنديانة خالها قطعة من قمر !
***
عزلة
حجراً ..حجراً أشيدها
وفي الليل أخذها على ربوة الصمت لي عشيقة !
***
الريح
في مقتبل الغموض تنثني لوعة الحبر، ترسي مكائدها على فجوة في شقوق الاستعارة ..
تمخر أنهارها الريح
يا ريح احترقي لتلوذ بك النايات
قال الشيخ وقد أدركه غسق العزلة
يا ريح..! يصيح ، ولا ريح ..
تتماوج في عينيه أناشيد صباه
فإذا بالغابات تشق أخاديد الوقت معالمها ..
تشرق من مهجته مدن شتى
وندوب الريح تتدلّى من سقف الريح
تلك الريح ما زالت في أحشاء الريح تصيح.. ولا ريح
***
كنت غارقاً في مسامرة (اريك فروم) حين تهيأ لي أن يداً تمتد الى الباب لتفتحه.. قفز الرعب الى الباب فاذا بالضيف قصيدة!
***
في التيه
في التيه سماوات وبحار
صيادون وشحاذون وباعة عطر
في التيه سماسرة الشعر ونقاد كدلافين محنطة بتوابل زائفة
في التيه فراشات نافرة وقصائد هاربة من قيظ الحبر..
***
في حدّ النثر والشعر
النثر رجل ارستقراطي انيق يتقن فن الخطابة لكنه يترنّح حين تفاجئه زخات الاستعارات..
أما الشعر فرجل سكير وكسول يكره النهوض باكراً وليس من شأنه أن يغتدي والطير في وكناتها لأنه كائن ليلي يحب السهر لذا غالباً ما يُصاب بالزهايمر فيلوذ بالاستعارات..
تركيب: النثر والشعر ليس من سيرتهما التعاقب كالليل والنهار.. فهما متوحّدان تماماً،لا برزخ بينهما كما قد يتهيأ لمن لم يخبر جمرات شذاهما..
***
قرابين
يا بورخيس، الخراف التي نحرها الرجال الكلدانيون قرابين للأسطورة أقرب ما تكون لاستعاراتنا الممزوجة بنداءات الهباء..
الهباء الذي تصنعه يد الطمأنينة وجدية المهرولين نحو المزاريب المضمّخة ببعر الحقائق الساذجة..
كم سيبدو مشهد السماء داكناً هذه الأيام يا بورخيس؟ والألف التي صادفتها في القبو ما زالت تؤرقني وترمم بصخبها الأبكم ميازيب أيامي!..
والخراف – الخراف نفسها – ما زالت تتوافد سيولاً وجماعات على استعاراتنا المنداة بدم الأوهام يا بورخيس..!
***
بعد أن أموت :
بعد أن أموت سيكون من حقّ العالم أن يمسح باسمي مؤخرة قنفذ متوسطي ويقهقه طويلاً فوق قبري ويصفق للفرح شعراً ونثراً ويعلق تعزيات كاذبة في حق رحيلي..
بعد أن أموت سيكون من حقّ الخسارات أن تئد الوجع وتمدّد القولون على المشرحة والسكانيرات بشتى فصائلها وتنويعاتها لتتأكد أنها خسرت زبونا مخلصاً من زبائنها القلائل الأشقياء.
بعد أن أموت هل ستبكيني الريح وتلعلع في جنازتي الأبواق؟ أم أني سأمضي إلى حتفي بعينين مطفأتين من جلل الفراق وسيتحلق حولي فقط نفر من أناس عرفتهم وآخرين شيّعوني فقط من باب تزجية الوقت وإكرام ميت ما لا يعرفون عنه شيئاً ..
بعد أن أموت ستسأل عني ربما زاوية المقهى التي ألفتني طويلاً .. والغسق الدامي الذي اعتاد مروري على عباءته كل يوم.. سيسأل ربما عني مخبر ما في الدروب الخفية أو باعة (الغولواز) البسطاء.. سيسأل عني سطح البيت والشجرة الوحيدة قرب الباب.. سيسأل عني ربما أيضاً رجل الفراغ المجلل بالهيبة التافهة..
بعد أن أموت ستذكرني اللغة بتأثر ووجع بالغين ربما وتذكر كيف كنتُ أتزلج على هضباتها بحرفية عالية أن لم أبالغ كثيراً في مديح لغتي.. أما المجاز فقد يبكي فتاه قليلاً ليشرع في ركوب قطار الساعة العاشقة ..
بعد أن أموت سأجهش في سرّي قليلاً ثم أسلم جثتي للمنام الوديع.. أو هكذا خيل لي وأنا أتمدّد شاهداً على الشاهدة.