إدارة بايدن… فلسطينياً
سعاده مصطفى أرشيد _
استطاع بن يامين نتنياهو اعتصار الأيام الأخيرة من رئاسة ترامب، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، في سباق لاهث مع موعد العشرين من هذا الشهر، وها هو قد حقق على أرض الواقع مجموعة من النقاط والمكاسب الشخصية والانتخابية له، ولجمهوره المتطرّف، ثم لمجموع «الإسرائيليين»، وهي مكاسب من النوع الذي يفرض واقعاً ويكون من الصعب تجاوزه أو العودة عنه لأيّ رئيس وزراء قادم في (إسرائيل) حتى ولو كان ببعض المقاييس معتدلاً، وكذلك على الإدارة الأميركية الجديدة إنْ رغبت – وهي لن ترغب، إذ إنها مرتاحة جداً بما حققت سياسات ترامب – نتنياهو، فما تلك السياسات إلا تعبير عن رغباتها وأمانيها المضمرة ومنسجمة مع قناعاتها، وهي وإنْ كانت تحسب لتنفيذها أكثر من حساب، فإنّ ترامب قد رفع الحرج عنها، سواء في موضوع ضمّ الجولان أو نقل السفارة الأميركية للقدس، أو في صفقته الشهيرة التي منح بها نتنياهو الأغوار والمستوطنات وشمال البحر الميت وبرية الخليل، ويسارع نتنياهو الزمن لتنفيذها خلال الأيام المتبقية، بصمت أو بصوت مرتفع، وكان آخرها إعلان حكومته عن قرارها ببناء مئات الوحدات السكنية الاستيطانية الاثنين الماضي.
أما وقد زال الحرج، ورفع العتب عن الإدارة المقبلة، فإنّ بإمكان بايدن أن يبدو بمظهر المعتدل الحكيم الذي سيحاول معالجة وترميم ما أحدث ترامب من فوضى ودمار، بإعادة إطلاق مسيرة التسوية من جديد، ثم بفتح حوار مباشر مع السلطة في رام الله، وغير مباشر مع غزة. إلى رام الله ستأتي وفود أميركية لعقد لقاءات والتعرّف على عقد ومفاصل الصراع باعتبارهم طارئين عليها، كما يحدث مع كلّ إدارة أميركية جديدة، وستذهب وفود فلسطينية إلى واشنطن، ويزدهر موسم السفر والطيران غرباً برغم عراقيل الوباء. نصيب السلطة من المساعدات المالية سيتسم بالسخاء وتعود وكالة التنمية الأميركية (usaid) إلى سابق نشاطها في دعم مشاريع ذات شكل يراه الناس، ولكن على أن لا تكون مفيدة، سيُعاد فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، كلّ ذلك سيتمّ تسويقه باعتباره انتصاراً للدبلوماسية الفلسطينية، التي سبق لها أن ادّعت محاصرتها للدبلوماسيتين الأميركية و»الإسرائيلية» قبل أيام من الكشف عن مسلسل التطبيع، وقد أعلنت القاهرة الثلاثاء الماضي عن بدء التحضير لاجتماعات رباعية ميونخ لدعم مسار السلام، وذلك بعد عام كامل من الدعوة للاجتماع في مطلع العام الماضي. أما في غزة فسيتولى القطريون إدارة الحوار وينوبون عن الأميركان في تقديم الدعم المالي بحقائب الدولارات الذي ستزيد وزناً وانتفاخاً كلما سارت أمور غزة كما يشتهي ويريد القطري باعتباره الممثل الأول وربما الحصري لسياسات الإدارة الديمقراطية، وبقدر ما تستجيب حركة حماس لخيارات القطري في تركيب وتراتبية قيادتها في المرحلة المقبلة، في الانتخابات الداخلية المقبلة.
ما تقدّم لن يغيّر من حقيقة أنّ الإدارة الأميركية الجديدة لا تقلّ صهيونية ودعماً (لإسرائيل)، وعدوانيّة علينا عن سابقتها الجمهورية في الجوهر، (فإسرائيل) هي ذراعها القوية والضاربة عسكرياً، وقاعدتها المتقدّمة، والنموذج المشابه لها والابن المباشر في السلوك لأبيه، في ادّعاء الديمقراطية والليبرالية وتطبيق نظم الرفاه والرعاية الصحية والاجتماعية، كما يماثله في صفات العدوان والتوحّش وادّعاء التفوّق، ستقوم الإدارة الديمقراطية بدعم وتغطية كامل النشاطات العدوانية والاستيطانية سواء في القدس أو في ما تبقى من الضفة الغربية، فقد أزالت الإدارة السابقة الحَرَج عنها كما ورد آنفاً، وهي تتعامل مع حقائق فاعلة وثابتة على أرض الواقع، هذا فيما يعدّد الفلسطيني انتصاراته وإنجازات دبلوماسيّته، ويحتفي بالضيوف الكرام الوافدين من واشنطن، وإعداد القوائم الطويلة لأعضاء الوفد – الوفود التي ستردّ الزيارة.
العودة إلى مسار التسوية لن يكون فورياً، وقد يستنفذ العام 2021 بأكمله فمن ناحية تجد الإدارة الأميركية أنّ لديها من الملفات الملحّة ما يتفوّق بأولوية على هذا الملف الذي قد لا يكون فيه ما يستدعي الاستعجال، فالعرب يهرولون بتسارع نحو التطبيع، والاهتمام بفلسطين يتآكل بتسارع عربياً وإسلامياً ودولياً، ولا دماء تسيل، ولا اشتباكات تثير فضائيات الأخبار وتشغلها، وسياسات بناء الفلسطيني الجديد وإعادة ترتيب أولوياتة واهتماماته قد آتت أُكُلها، فأمام الرئيس قائمة من العناوين الداخلية المستعجلة وعلى رأسها ملفات وباء الكورونا والانكماش الاقتصادي، وتفكك المجتمع عرقياً وثقافياً، ثم الحالة الشعبوية التي أوجدها ترامب وتجلت في غزوة دهماء على مبنى الكونغرس في الأسبوع الماضي، وملفات خارجية ملحة كالعلاقة مع روسيا والتوتر في بحر الصين ومعها، والملف النووي الإيراني وغير ذلك كثير، ثم أنّ (إسرائيل) ستكون على موعد مع انتخاباتها الرابعة في آذار المقبل، ولا أحد يستطيع الجزم بنتائجها، ولكن مؤشرات عديدة تشير إلى أنّ نتنياهو قد لا يغيب عن مسرح السياسة، والاستطلاعات تعطيه إمكانية الحصول على مقاعد أكثر مما حصل عليه في المرات السابقة، وهو وإنْ غاب عن مسرح السياسة، فإنّ مَن سيرثه في زعامة اليمين، لن يختلف كثيراً عنه إلا في حالة أن يكون أكثر تطرفاً، وأقلّ دبلوماسية ومهارة وخطابة، نتائج الانتخابات بكلّ حال لن تكون حاسمة باتجاه فريق قادر على تشكيل حكومة بسهولة، الأمر الذي سيجعل من مشاورات تشكيلها طويلة، وقد تستمرّ إلى أواخر الصيف فيما يبقى نتنياهو خلال كلّ تلك الفترة رئيساً لحكومة تصريف أعمال، التي قد تنتهي بتشكيل حكومة أو الذهاب إلى انتخابات خامسة، ومن الطبيعي أن ينتظره الأميركي غير المتعجّل الذي سيفضل إطلاق عملية التسوية مع حكومة «إسرائيلية» مستقرة.
هكذا سيمرّ العام 2021، عام انتظار جديد، ولا ندري إنْ كان الأخير، بإمكان الفلسطيني قضاءه في حوارات الوحدة والحديث عن ضرورتها، وعن الانقسام ومخاطره، ثم انتظار فراغ بايدن من معالجة الملفات المزدحمة والملحة على مكتبه، وانتظار مآلات تشكيل حكومة في (إسرائيل) إنْ تشكلت، وقد يجري انتخابات المجلس التشريعي الثالث، بعد عقد ونصف العقد من موعد استحقاقها، بالطبع إنْ وافقت (إسرائيل) على ذلك، مع أو بدون القدس ومناطق (ج) والأغوار، هكذا يحترف الفلسطيني الحزن والانتظار…
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة.