أخيرة

ماذا يجمع بين عطيل وديك الجن الحمصيّ ووردة الجزائريّة؟

زياد كاج*

  هو ذاك الشعور الإنساني الكامن والبركاني المدمّر المُسمّىالغيرة”. في حال ثورته يترك آثاره على ضحاياه أكانوا من أكلة التفاحة أو من قاطفاتها. فعطيل، القائد العسكريّ الفذ والأسود البشرة، ذاب بحب ديدمونته حتى الموت بفعل الغيرة القاتلة. وديك الجن الحمصيّ، الشاعر العباسيّ الماجن والمعارض للسلطة، لم يحب في حياته الطويلة سوى ورد زوجته؛ لكنه قتلها بسبب إشاعة وأمضى بقية عمره ينشد قصائد الألم والندم. والمطربة الجزائرية شربت إكسير الحب الحقيقيّ مع الملحن العبقريّ بليغ حمدي بعد مسيرة حب طويلة بسبب رفض والدها من زواجهما. لم ينته زواجهما بجريمة بل بطلاقوموت نفسي بعد زواج دام لسنوات وأثمر أغاني وألحاناً خالدة. في آخر أيامه بقي بليغ يردّد اسم وردة وهي حفظت له الحب والإيام الحلوة. وغنت أغنيتها الشهيرة: “جرّب نار الغيرة وقولي.. «

 « الغيرة مرض، نتمنى لك الشفاء العاجل، يقول أحد آلاف التعليقات حول الموضوع على شبكة الإنترنت. هو شكل من أشكال الكراهية مبنيّ على الإحساس بعدم الأمان. وتفصيلاً هي خليط من الأفكار والمشاعر والأفعال المتداخلة والمعقدة التي تلي عادة أي تهديد للشعور بالقيمة الذاتية أو لاستمرارية ونوعية علاقة بين شخصين.

  في ثانوية رمل الظريف (ثانوية الرئيس الشهيد رينيه معوض والدكتور حسن صعب اليوم)، كان من حظنا أن ندرس حصة الأدب الإنكليزي على يد أستاذ مميز ومعطاء اُسمه طلعت عياش. كان يمتلك سيارةفولزفاكنبيضاء قديمة يركنها قربسجن النساءالمواجه للمدرسة. رجل بسيط، متواضع، لامع الذكاء، فرح.. فأعدانا فرحاً. كان يؤمن بأن مهنة التعليم لا تختلف كثيراً عن مهنة التمثيل على خشبة المسرح.

  «السنة الماضية كان لديّ فيلة هنا في الصف، قال مرحباً بنا في الصف الأول ثانويّ. كان يعبّر عن معاناته مع الصف الذي سبقنا في السنة الماضية وعن فرحه لرؤية طلاب جدد صغار السن توسّم في وجوههم تفتّح الذهن والرغبة في التعلم.

  فعلها طلعت عياش! قام بعمل لم تطلبه منه الإدارة. الزمن زمن حرب وفوضى ولا مَن يحاسب أستاذاً في التعليم الرسمي على عطائه ومعاملته للطلاب. دعانا الى قاعة المختبر المهملة والقريبة من قاعة الصف. جلب معه كاميرا لم نرَ مثلها من قبل. أطفأ النور وأدار الكاميرا ووجهها نحو الحائط الأبيض المغبر أمامنا. لحظات وبدأ عرض مسرحية شيكسبير الخالدة: “عطيل”. لأول مرة رأينا مادة الدرس تتحوّل من مجرد أحرف على صفحات كتاب سميك الى صور وأصوات ممثلين يتحرّكون ويتكلمون ويتفاعلون.

  عطيل (القصة ربما مأخوذة عن كاتب إيطالي يدعى جيوفاني باتيستا) هو قائد عسكريّ من أصول مغربية لدى حكومة البندقية ومتزوّج من ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ تدعى ديدمونة. رودريغو من نبلاء البندقية، كان قد طلب يدها لكنه رُفض، نراه يشكو أمره لصديقه ياغو (جنديّ في جيش عطيل). ياغو هذا هو حامل الراية وهو رمز الشرّ في المسرحية يكره قائده لأنه يفضل جندياً ملازماً آخر عليه أسمه كاسيو وهو صديق عطيل. يقرّر القيام بلعبة قذرة لإشعال نار الغيرة في نفس عطيل (في أحد المشاهد نراه يهمس بخبث في أذن عطيل: “إن نساء البندقية يهوين الخيانة الزوجيّة)، فيفتعل مشكل بين كاسيو وجندي آخر. يقرّر القائد إقصاء كاسيو من منصبه. فيلجأ الأخير طالباً المساعدة من ديدمونة. هنا يصل مكر ياغو الى قمّته فيوحي لعطيل أن أمراً ما يحصل بين زوجته الفاتنة وكاسيو. ويطلب ياغو سراً من زوجته إميليا أن تضع منديل ديدمونا في بيت كاسيو. يختلط الأمر على عطيل لاحقاً وتتسلل الشكوك الى قلبه وعقله فيُصاب بالهذيان. وفي لحظة غضب يخنق زوجته في غرفتهما التي طالما قالت أمام الناس إنها ترى وجهه في عقله ولا تهتمّ بالمظاهر رغم أنه فقير وغير وسيم. هنا تظهر إيمليا وتعترف بفعلتها وتفضح زوجها، فيقتلها عطيل ويطعن ياغو واصفاً اياه بالشيطان ويقتل نفسه في نهاية التراجيديا الشيكسبيريّة. يُعيّن كاسيو خليفة له.

  يُعتبر تجسيد شخصية عطيل أمراً غير مألوف في الأدب الإنكليزي في زمن شيكسبير حيث جرت العادة على تمثيل الشعوب غير الأوروبية كشعوب ذات مستوى أقلّ. رغم ذلك بدا عطيل شخصاً بسيطاً جداً شديد الثقة بالآخرين. كما كان شخصاً رومانسياً الى أبعد الحدود يتحوّل مجرماً بسبب هيجان عاطفيّ. إذ كيف ينخدع قائد عسكريّ ببساطة من قبل شخص مثل ياغو الذي يعتبر أهم شخصية في المسرحية. أما القائد الأسودحسب دلالة ومعنى اسمهيمثل الآخر الغريب في البندقية في زمن كانت في ذروة قوتها ومجدها وسيطرتها في شرق المتوسط بقوة بحريّة عظيمة بقيادة مرتزقة في معظم الأحيان.

  بغض النظر عن التشكيك المعلن حول حقيقة وجود كاتب اسمه شكسبير (يُقال إنه سرق أعمال صديقه الشاعر كريستوفر مارلو الذي قتل في عراك في إحدى الحانات)، لا بدّ من الإشارة الى أن المسرحية أتهمت بالعنصريّة وبسببها عقدت ندوات ونقاشات حامية حول عنصرية شكسبير تجاه أصحاب البشرة السوداء (في صفحات عديدة من المسرحية يستخدم أسمعطيل الأسود”). الحقيقة أن هذا الكاتبالظاهرة كتب من أجل المال والشهرة وأسس أول مسرح مفتوح في لندن تحت اسممسرح غلوبولم يكن في زمنه يُسمح للمرأة بالمشاركة في العروض فيُستعان عنها بذكور يرتدون ثياب النساء الممثلات. شكسبير كان يفهم زمنه (القرن السابع عشر) وكان يعرف ماذا يريد الناس ويستخدم لغتهم، وكان عميق الفهم بالطبيعة الإنسانيّة رغم أنه لم يدخل الجامعة. وعندما أغلق المتشدّدون البيوريتانز المسارح، لجأ الكاتب الى عالم الشعر وكتب أجمل القصائد في الحب.

   إذا كانت تراجيدياعطيلمن خيال كاتب، فمأساة الشاعر ديك الجن الحمصيّ هي من سيرة حياته الواقعيّة. هو شاعر عباسيّ شعوبيّ، اكتسب لقبه لعينيه الملونتين الخضراوين. البعض يقول لأنه رثى ديك أبي عمر بن جعفر. هو عبد السلامبن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي. ولد على نهر العاصي، وعاش ومات في حمص. كان ساعياً وراء الخمر ومطاردة النساء والغلمان. حياته كانت لاهية عبثيّة جلّها في اللذات الماديّة. اُعجب بالصعاليك وفلسفتهم القائمة على الرفض والتمرّد. وكان من عشاق الموسيقى والغناء. اُتهم بالإلحاد بسبب عدم إيمانه بالقيامة، لكن أبي العلاء المعري دافع عنه فيرسالة الغفران”. لم يكن شاعراً مدّاحاً متكسّباً بشعره، فلم يدخل قصر سلطان. سعى كبار شعراء عصره لزيارته والاتصال به أمثال أبي نواس ودعبل الخزعي.

   ياغو كان حاضراً في حياة ديك الجن بصفة أبن عمه، لكن بدوافع بقيت غير معروفة. أحبّ الشاعر امرأة أسمها ورد (كانت مسيحية فأسلمت بعد زواجها منه). كانت المرأة الوحيدة التي أحبها شاعرنا الماجن. يقال إن خوفه من المرأة والشك فيها نابع من كثرة العلاقات مع النساء فصار يشكّ بوفاء المرأة عامة. فهو لم يعرف الفاضلات سوى زوجته ورد.

  ضاقت به الحال فاضطر للسفر وطال غيابه. اتهم ابن عمه ورد بالخيانة وحبك التهمة جيداً فشاعت بين الناس. بعد عودة ديك الجن علم بالإشاعة فصدقها لكثرة ما سمعها. فاستلّ سيفه في لحظة غضب وقتل ورد زوجته. إلا أنه سرعان ما عاد الى رشده بعد تأكده من براءة ورد فندم ندماً شديداً ومكث شهراً كاملاً لا يستفيق من البكاء. لا يأكل ولا يشرب وقال في ندمه على قتلها:

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتيَّ من شفتيها.

  ظلت الحادثة جرحاً نازفاً في حياته، ولم يقل شعراً طوال ما بقي من عمره إلا فيها. تحوّل قتلُ ورد الى كابوس لا يفارقه لا في نومه ولا في صحوه.

  بين عطيل وديك الجن كأس الغيرة المرّ وحبّ مجنون وإحساس بانكسار الكرامة وسط مجتمع لا يرحم. تجمعهما حالة من عدم الثقة بالنفس وبالمرأة عموماً رغم إخلاص الشريك (كل من ديدمونة وورد كانتا ضحية بريئة لدسائس خبيثة). كلاهما وقعا في جبة الندم المرير بعد قتلهما للحبيبة البريئة. عطيل شخصية متخيّلة كتبها قلم عبقريّ، وديك الجن شخصية حقيقية خطها القدر انتهت بدماره النفسي. كلاهما يشعراننا بأن في الحب شيئاً من المرض، شيئاً من حب التملك، والكثير من عدم الثقة بالنفس حين يكون الحبيب وسط بيئة معادية. عطيل كان قائداً أسود البشرة في البندقية وديك الجن الحمصي لم يكن على علاقة جيدة مع الحكام وكان وضعه المالي دقيقاً.

  في علم النفس اليوم حالة تسمّىملازمة عطيلوهي تشخيص لحالة الغيرة التي تزيد عن حدّها لدرجة تمنع من استمرار أو تهدّد العلاقة العاطفية أو الزوجية.

 الملحن العبقريّ بليغ حمدي كان بوهيمياً يطارد الكلمة واللحن وسط الأسواق وبين الناس. طائر ثائر لا يستقرّ في مكان. وأغنية أم كلثوم الخالدةحب أيه ألي أنت جايي تقول عليهاستلهمها من صديق صعلوك له كان يجالسه في المقهى. حادثة انتحار الفنانة المغربيّة من شقته جرّته الى المحاكم وأجبرته على ترك مصر والقاهرةحبيبته للعيش لسنوات طويلاً في فرنسا، حيث عانى وتراجع صحياً وفنياً. قال عنه العظيم عبد الوهاب: “ألحانه ونوتاته قطع ألماس على صفيح من نحاس”.

  بقى الملحنالظاهرة على فراش المرض يردد حسب المقربين منه اسم: “ ورد..ورد..وردة”. رحل هو ثم رحلت وردة وبقيت أغنيةجرب نار الغيرةجرب نار الغيرة.. جرب ليلك يبقى نهارتحتك شوك وعيونك نار”.

  فهل نسأل عطيل أم ديك الجن أم بليغ عن تلك النار وعن الليل الذي تحوّل نهاراً؟

لا إصلاح للناس ولا صلاح؛ ستستمر في الحب والغيرة والحسد والكذب والقتل والسرقة والغيبة. وسيستمر الشرّ في عراكه مع الخير طالما الحياة قائمة على هذه الأرض.

  يقول أبو العلاء المعري: “لا تظلموا الموتى وإن طال المدى.. إني أخاف عليكم أن تلتقوا”.

*روائي من لبنان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى