الناصريّة بين الدروشة والرؤية العلميّة!
د. محمد سيد أحمد*
ليست المرة الأولى التي أتحدّث فيها عن الناصرية والناصريين والتي أكاد أجزم بأنهم التيار الأكبر في الشارع المصري والعربي، لكن للأسف الشديد ما يفرّقهم أكثر بكثير مما يجمعهم، وعلى الرغم من كثرة المحاولات لجمعهم تحت لواء وراية واحدة إلا أنّ كلّ المحاولات وعبر السنوات الطويلة الماضية قد باءت بالفشل، وفي الذكرى 103 لميلاد الرئيس والتي مرّت علينا هذا الأسبوع تجدّد الحديث عن ضرورة وحتمية وحدة الناصريين الذين يتجمّعون فقط في المناسبات حول ضريح الرئيس كالدراويش يلتقطون الصور التذكارية ويتباكون على تشتّتهم وتشرذمهم. وهنا لفت انتباهي أنّ غالبية من يدّعون انتماءهم للناصرية هم في الحقيقة لا يعرفون شيئاً عن الفكر والمشروع والتجربة الناصرية والتي يمكن التعرّف عليها بسهولة عبر وثائق ثورة 23 يوليو (فلسفة الثورة – الميثاق – بيان 30 مارس)، وأنّ أغلبهم يرتبط بالرئيس عاطفياً وليس عقلياً، ومن هنا وجب تجديد ما ذكرته كثيراً حول ضرورة تحديد ماهية الناصرية والناصريين من منظور علمي.
وفي محاولة فضّ الاشتباك حول ماهية الناصرية والناصريين، يجب التأكيد على أنّ الناصرية هي تلك التجربة التي صنعها الزعيم جمال عبد الناصر عبر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 والتي أعلنت ستة مبادئ أساسية شكلت البذور الجنينية للمشروع الفكري لجمال عبد الناصر وهي: (القضاء على الإقطاع – القضاء على الاستعمار – القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم – إقامة جيش وطني قوي – إقامة عدالة اجتماعية – إقامة حياة ديمقراطية سليمة)، وبالطبع قام جمال عبد الناصر ببلورة مشروعه عبر ثلاثة محاور رئيسية لتحقيق التقدّم والتنمية الشاملة، من خلال (الحرية – الاشتراكية – الوحدة) باعتبارها مرتكزات رئيسية للنهضة، ومن خلال المبادئ الستة للثورة والمحاور الثلاثة للتقدّم والتنمية الشاملة تشكلت المعالم الرئيسية للمشروع الناصري الذي أعلن جمال عبد الناصر أنه خاضع للتجربة والخطأ عبر الممارسات الواقعية اليومية، وهو ما يميّز تجربة جمال عبد الناصر عن التجارب المستمدّة من النظريات الفكرية التي تتعامل على أنها مسلّمات في قوالب جامدة، لذلك ظلّ يصحّح من أخطاء تجربته حتى اليوم الأخير في حياته.
وبعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر جرت الردّة على مشروعه وتجربته منذ مطلع السبعينيات، وهنا بدأت تتشكّل مجموعات للمقاومة سواء داخل مصر أو خارجها، تمسّكت بمشروع جمال عبد الناصر وتجربته القائمة على المبادئ التي أرساها عبر ثورته، والمحاور الرئيسية لمشروع التقدّم والتنمية الذي وضعه، وأطلقت مع الوقت هذه المجموعات على نفسها اسم الناصرية، أي الأشخاص الذين يؤمنون بأفكار ومشروع وتجربة جمال عبد الناصر.
إذن يمكننا الآن تعريف من هم الناصريون؟ فالشخص الذي يدّعي أنه ناصري لا بدّ أن يكون على وعي تام بمبادئ جمال عبد الناصر ولا يخرج عن هذه المبادئ التي أرساها عبر مشروعه وتجربته. فالناصري ضدّ الإقطاع وسيطرته بكافة أشكاله القديمة والحديثة، والناصري ضدّ الاستعمار بكلّ أشكاله القديمة والحديثة، والناصري ضدّ سيطرة رأس المال على الحكم بمختلف أشكالها القديمة والحديثة، والناصري مع جيشه الوطني يدعمه ويقوّيه في مواجهة أعداء الداخل والخارج، والناصري مع العدالة الاجتماعية منحازاً كما زعيمه مع الفقراء والكادحين والمهمشين في كلّ مكان، والناصري مع الحياة الديمقراطية السليمة القائمة على تمكين المواطن من مباشرة حقوقه الدستورية والعيش بكرامة في وطنه، والناصري مع حرية الإنسان داخل مجتمعه وفقاً للمنصوص عليه في الدستور والقانون وضدّ أي فعل يمسّ هذه الحقوق والحريات، والناصري مع الاشتراكية باعتبارها آلية لمنع الاستغلال داخل المجتمع ووسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، والناصري مع الوحدة العربية باعتبارها آلية لمواجهة التكتلات الإقليمية والدولية الكبرى.
هذا هو التعريف العلمي للناصري وهو تعريف إجرائي يعتمد على مجموعة من المؤشرات التي يمكن قياسها في الواقع. فمن تتوافر فيه هذه المقومات فهو ناصري – حتى ولو لم يعلن انتماءه للناصرية – أما من يفقد شرطاً من هذه الشروط فلا يمكن أن نطلق عليه هذا المسمّى، ومن هنا يمكن لكلّ شخص يدّعي أنه ناصري أن يحكم على نفسه عبر هذه المؤشرات التي جاءت في التعريف العلمي للمفهوم، وبذلك نتخلص وبشكل نهائي من فوضى المسمّيات، وبالطبع ما ينطبق على الأشخاص ينطبق على المجموعات والتنظيمات والأحزاب التي ترفع راية الناصرية أو تحمل اسم الناصرية. ومن المؤكد أنّ تطبيق شروط المفهوم في الواقع سوف يكشف الجميع، ويحدد الموقع الحقيقي لكلّ من يدّعي أنه ناصري سواء كان فرداً أو مجموعة أو تنظيماً.
فلا يمكن أن يكون ناصرياً مَن يدعم الإقطاع، أو يهادن ويطبّع مع الاستعمار، أو يسكت على سيطرة رأس المال على الحكم، أو يهاجم جيشه الوطني، أو يصمت عن غياب العدالة الاجتماعية، أو لا يثور في مواجهة الاستبداد وعدم إقامة حياة ديمقراطية سليمة، أو مَن يقبل بفقدان حرية الإنسان، أو عدم تطبيق الاشتراكية لإقامة العدالة الاجتماعية ومنع الاستغلال، أو مَن لا يدعم الوحدة العربية ويقف صامتاً أمام ما يحدث في فلسطين والعراق وليبيا واليمن ولبنان وسورية من مخططات للتقسيم والتفتيت.
وبعد أن توصلنا إلى مَن هم الناصريون؟ نأتي إلى الخطوة الأكثر إجرائية في هذا الطرح وهي الناصريون إلى أين؟ أعتقد أنّ كلّ المحاولات التي تنادي الآن بضرورة وحدة التيار الناصري عليها أولاً أن تفرز وعبر التعريف العلمي للمفهوم من هو الناصري الحقيقي سواء كان فرداً أو جماعة أو تنظيماً أو حزباً، وذلك عبر المواقف المعلنة والمعروفة والمسجلة حول المؤشرات المختلفة التي طرحت في المفهوم، وبعد عملية الفرز ستكون مهمة التوحيد أسهل وأيسر بكثير، فالمخلصون لأفكار ومشروع وتجربة جمال عبد الناصر يمكنهم التوحد بسهولة لأنهم لا يبغون شيئا غير إعادة إحياء مشروعهم المقاوم، أما المتمسّحون في رداء جمال عبد الناصر من الدراويش الذين يدعون زوراً وبهتاناً بأنهم ناصريون في حين يخالفون كلّ مبادئ جمال عبد الناصر فهم جزء من المؤامرة على المشروع الناصري المقاوم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.