نقاط على الحروف

الفرصة الذهبيّة لوليد جنبلاط

 ناصر قنديل

لم يفاجئ وليد جنبلاط أحداً من اللبنانيين برسمه معادلة جديدة لتخيير حزب الله بين اثنتين، فهو دائم الحركة على هذا الخط ذهاباً وإياباً، ويملك قدرة الاستدارة التي لا ينافسه عليها أحد، ويفسّرها بالتأقلم مع المتغيرات، او بالقفز من المراكب الغارقة، كما وصف انقلابه على سورية عشية الحرب الأميركيّة على العراق، ثم عاد فوصف بالتعبير ذاته نعيَه للحركة التي قادها وأسماها بثورة الأرز، متجاوزاً حساسيته المفرطة ضد الرموز التي تختصر لبنان بعناوين يعتبرها خاصة بالمسيحيين، قبل أن يسارع إلى شرعنة محميّة أرز الباروك مانحاً الأرز صفة العبور بين الطوائف والرمزيّة الجامعة، لكن جنبلاط شديد الانتباه الى أنه تهرّب من استعمال معادلته السابقة التي كان يعرضها على حزب الله بدلاً من معادلة اليوم «الحياد أو قاعدة الصواريخ»، فهو لا يريد لأحد أن ينتبه أنه خلع معادلته السابقة «هانوي أم هونغ كونغ»، لأن فضيحة نموذج هونغ كونغ التي كان من دعاتها وروّادها والمبشّرين بها تتجسّد بصورة مأساويّة في يوميات اللبنانيين الذين سرقت مصارف «هونغ كونغ» ودائعَهم، ونهبت الفوائد المرتفعة لفلسفة هونغ كونغ مقدراتهم تحت شعار تثبيت سعر الليرة، التي صارت اليوم بلا سعر، وطارت معها مداخيل اللبنانيون الذين دعاهم جنبلاط لتجنّب نموذج الإفقار الذي تمثله هانوي ووعدهم إن فعلوا وسمعوا نصيحته بالحصول على نموذج هونغ كونغ، وهو يريد أن ينسحب خلسة من نموذجه المتداعي الذي لم يسقط لأن اللبنانيين خالفوا جنبلاط وساروا وراء نموذج هانوي، واقتصاد المقاومة والتوجّه شرقاً، بل لأن اللبنانيين صدّقوا وصفة جنبلاط بنبوءة هونغ كونغ وسلّموا أمرهم لعرّابيها في المال والسياسة والمصارف، فقرّر التسلل هرباً من الذاكرة، والقفز مجدداً من مركب غارق جديد.

يعود جنبلاط لدعوة الحياد، لأن ليس فيها شبهة هونغ كونغ، متمنياً أن يُصيب اللبنانيين نسيان آخر وفقد ذاكرة ثانٍ ،غير نسيانهم لترويجه لكذبة هونغ كونغ، بأن لا ينتبهوا إلى أنه صاحب معادلة أخرى، بعد الخروج السوري من لبنان وليس قبله، وبعد انقسام 14 و8 آذار وليس قبله، والمعادلة كانت الإصرار ثم الإصرار على صناعة تفاهم وطني مع حزب الله يقوم على حفظ السلاح كمصدر قوة لا بديل عنه في مواجهة خطر العدوان، ويضيف محذراً من دعوات الحياد التي كان يرفعها بعض حلفائه في 14 آذار، ويقول من موقع المختلف مع حزب الله محذراً من خطورة وصفة الحياد، «يحيد لبنان ولاحقاً كما أراكم وكما ترونني يطلب من لبنان مجدداً الالتحاق بحلف مشابه للسابع عشر من أيار»، وجنبلاط يعلم أكثر من سواه أن المناخ العربي الذي يدعو الى التلاقي معه اليوم من موقع دعوته المستجدّة للحياد هو الفلك السائر في مسارات أقل ما ستطلبه من لبنان هو نموذج مشابه لاتفاق 17 أيار.

يعرف جنبلاط أن الحياد كذبة لا تقلّ آثامها عن كذبة هونغ كونغ، والكذبة الجديدة كالقديمة لا تملك أجوبة عن أسئلة اللبنانيين، ماذا عن مصير اللاجئين الفلسطينيين ومشروع التوطين؟ وماذا عن دور لبنان الاقتصادي في ظل التطبيع الخليجي الإسرائيلي، والتفاهمات التي تطال المرافئ والمصارف؟ ولبنان كما وصفه ميشال شيحا مرفأ ومصارف، كما يعلم جنبلاط علم اليقين بأن وصفة الحياد هذه لن تتحقق كما لم تتحقق وصفة هونغ كونغ فلكلتيهما مهمة واحدة هي ذرّ الرماد في عيون اللبنانيين لاستعدائهم على سلاح المقاومة، لكن لا إمكانات واقعية لأصحاب هذه النماذج الوهمية على خلق معادلات تحاصر السلاح، وقد زاد جنبلاط علماً بذلك بعد التطورات التي قالت إنه فقد دور بيضة القبان المستندة الى إمساكه بموقع الجبل الجغرافي في ربط بيروت بالبقاع والبقاع بالجنوب وبيروت بالجنوب، والممسك بخيوط منع أو تمرير الفتنة بين السنة والشيعة، وهذه كلها قد اختبرت وتبخّرت، لذلك قرر ذات يوم ان يخفض سقف طموحاته ويرتضي رسم سياساته على خطوط نقل وتسويق الترابة الى سورية، ولما اصطدم بأن حزب الله لا يتاجر، نام واستيقظ على حملة منظمة قادها ضد مؤسسة القرض الحسن ليقول متوهماً لحزب الله لقد ضبطتك متلبساً بالجرم المشهود، قبل أن يخرج السيد حسن نصرالله، ويطمئنه أن لا مرابحة في مؤسسة القرض الحسن، وبالتالي لا مصلحة للباحثين عن مرابح بالدخول على خطها، وجنبلاط يعلم أيضاً أن الأيام المقبلة حبلى بالكثير من التطورات، وها هم الذين يثق براداراتهم يبشرونه بالانشغال الأميركي عن المواجهة مع إيران وحزب الله، بل من بينهم اليوم كثر هم الذين يحذرونه من أن رفع العقوبات الأميركية عن إيران قد لا يكون بعيداً، كما بشّروه قبل خمسة أعوام بقرب توقيع الاتفاق النووي مع إيران، فلماذا يجازف جنبلاط وهو لاعب على حافة الهاوية محاولاً تقليد نموذجها الأصلي في سورية، وفقاً لوصف هنري كيسنجر للسياسة السورية، لكن جنبلاط عندما يلعبها يفعل من دون مجازفة، فلماذا تغيير العادات السليمة في الزمن الخطأ؟

الناصحون يقولون، إن هذا الأسلوب في التخاطب مع حزب الله لا يُجدي، وإن من يقدم أوراق اعتماده للخليج في زمن تخبط حاكم الخليج في ظل الشعور بوحشة التخلي الأميركي، يصحّ فيه القول «يطعمو الحج والناس راجعة»، ويقول هؤلاء ربما يكون سوق المشتقات النفطية الذي يملك فيه جنبلاط خبرة لا تقلّ عن خبرته في سوق الترابة، هو الفرصة الذهبيّة لجنبلاط، فالعرض الإيراني ببيع لبنان المشتقات النفطية بالليرة اللبنانية لا يزال قائماً، والخشية من العقوبات الأميركية يجب الا تخيف جنبلاط، وهي في طريق الزوال، وربما «تنقش معه» ويستطيع إضافة لتجارة المشتقات في لبنان أن يشرعن بيع المشتقات الى سورية بدلاً من التنديد بالتهريب، فهل يفاوض جنبلاط على الوكالة الحصرية للمشتقات النفطية الإيرانية؟ ولكن هل ينبّهه المستشارون الى انه لا يحتاج في هذه الحالة لرفع السقوف، ويمكن له دقّ الباب ليسمع الجواب؟

البعض يظنّ أن رقصة جنبلاط الأخيرة ليست تجارية بل أمنية، وتتصل بمشاغباته حول التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت، وحملته الهوائية التي لم يهتم لها أحد بتوجيه الاتهامات لسورية بالوقوف وراء صفقة النترات الى لبنان، فهل يعلم جنبلاط ما لا يعلمه الآخرون عن أدوار لبنانية متورطة في شراء النترات وتخزينها لحساب الجماعات المسلحة في سورية التي سماها ذات يوم بالممثل الشرعيّ الوحيد للشعب السوري داعياً لشرعنة سيطرة جبهة النصرة على جرود عرسال، متحدثاً عن نصرة لاند اسوة بفتح لاند التي قامت في منطقة العرقوب أواخر الستينيات من القرن الماضي؟ وهل كان طريق النترات هو من نصرة لاند إلى الداخل السوري؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى