أبو عرب منشد الثورة و الأرض
} حمزة البشتاوي*
أبو عرب الثائر والفنان وشاعر الثورة المعروف بأغانيه ومواويله التي تشبه توتة الدار وزيتون فلسطين وليمونها وزهر الرّمّان.
عرفتُه عن قرب وجلستُ معه بعد أن كنت أسمع أغانيَه ومواويله التي فيها ريحة أيام زمان والتقيته حين جاء لإحياء حفل فني بذكرى مخيم تل الزعتر أقيم في مخيم شاتيلا للفلسطينيين في لبنان.
وبعد الحفلة التي استمرّت ثلاث ساعات بالتمام والكمال وبسهرة طويلة لم يتوقف فيها صوت أبو أعرب يُفرحنا ويُبكينا شوقاً وحنيناً لبلادنا وما زلت أتذكّر موالاً:
يا دار مهما طال البعد لاجي ودمعي بفرقتك عالخد لاجي ما عدت أعيش أنا باسم لاجي لا بد ما عود لو طال الغياب.
وآخ من وجع اللجوء والغربة الساكن فينا من أيام النكبة والبعد عن البلاد.
وبهذه السهرة كان أبو عرب، الله يرحمه، عمره 83 سنة وما شاء الله عليه لم يهدأ صوته إلا لضرورات اللحن والأوزان وبتذكر كيف صار عازف العود يقول له: أنا تعبت يا أبو عرب وبردان فيرد أبو عرب عليه بموال، ويقول: بعدها السهرة بأولها يا فنان ولما تعب عازف العود اقتربت من أبو عرب خجلان، وقلت له: أحكيلي عنك يا ابو عرب كفنان وإنسان فرد بتنهيدة تشبه الأوف بالموال، وقال: بعيداً عن كان يا ما كان.
أنا أبو عرب واسمي إبراهيم محمد صالح ولدت بقرية الشجرة بالجليل سنة 1931 وقريتي أنجبت أدباء وفنانين كتار وشعراء منهم الشاعر علي الأحمد والفنان ناجي العلي وفيها استشهد الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود وهو من قرية عنبتا قضاء طولكرم. وبقريتي الشجرة عشت أحلى أيام الطفولة وأول سنين الشباب ودرست بمدرسة القرية وبعدين رحت على مدرسة لوبيه المجاورة حتى سنة الـ 1944 وبعدين درست سنة بطبريا ومن أيامها كنت أحضر الأعراس بالقرية وأسمع الشعر الشعبي بالحداء والسحجات. وكنت متأثر بجدي الشاعر الشيخ علي الأحمد وبعدني متذكر أشعاره متل ما متذكر كل الأحداث بفلسطين خاصة ثورة الـ 36 ضد الإنكليز لما كانوا الثوار يأتوا إلى قريتنا وينصبوا الكمائن للدوريات وبتذكر كمان كتير منيح معركة الشجرة الأولى لما انجرح أبوي محمد الصالح بإيده ورحت مع أهلي بعدها على قرية كفر كنا قضاء الناصرة وتسللنا مع من تسلل من قريتنا ومررنا بسهل البطوف وحقول الذرة بكفر كنا وبقينا هناك حتى نزحنا إلى لبنان وقعدنا ببنت جبيل إحنا وعائلة ناجي العلي مع بعض تحت شجرات التين والزيتون والرمان. وبعد شهرين كاملين إنتقلنا إلى مخيم عين الحلوة قعدنا فيه حوالي ثلاثة أشهر بالتمام والكمال وبعدها انتقلنا على سورية وسكنا بمخيم حمص واسمه مخيم العائدين والمخيم متل ما بتعرف كان بالسابق ثكنة للجيش الفرنسي فيه مهاجع مقطعة بالزينكو وقسم منا سكن المهاجع وقسم سكن الخيام. والله وكيلك أول سنة بالمخيم كانت أصعب سنة بحياتي بعيد عن بلدي وبرد وثلج وعذاب وأمراض كثيرة، يعني شي كان وشي ما كان وبوقتها كتبت وقلت: شهر وسنة عم تمرق الأيام والليل باكي فوق خيمتنا وأطفال تحت البرد عم بتنام بخيمة وريح الظلم عصفتنا وجدي مريض بتوكله الأسقام أخي وأنا بنلوك دمعتنا أمي حزينة دموعها أرقام أرقام بتحكي بعد نكبتنا.
وبسنة 1955 بدأت أغنّي العتابا والميجانا والدلعونا بأعراس المخيم وأكتب أشعار شعبية بتحمل المعاني الوطنية والثورية والحنين لفلسطين وقريتي الساكنة بقلبي وعيني.
وبسنة 1959 دعاني الأستاذ فؤاد ياسين وهو كان مدير ركن فلسطين باذاعة صوت العرب بالقاهرة لتقديم برنامج عن الشعر الشعبي الفلسطيني، وكان اسم البرنامج أهازيج ومكاتيب ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية سنة 1965 صرت أكتب وألحن أغاني ومواويل للوطن والثورة وأسست فرقة سمّيتها فرقة فلسطين للتراث الشعبي ولما استشهد ناجي العلي سمّيت الفرقة باسمه.
وبعد أن سرحت قليلاً عدتُ للنظر في عينيه وسألته: ما هي أكثر حادثة أو قصة بتتذكرها بحياتك يا أبو عرب.
تنهّد ووضع يده على خده وقال:
بتذكّر دايماً ابني الشهيد معن الصالح يلي كان متعلق فيني كتير وهوي شاب خلوق من صغره وخريج كلية هندسة واستشهد بجنوب لبنان سنة 1982 لما كان بدورية هو ورفاقه الستة رايحين ينفذوا عملية ضد جيش الاحتلال، ولما وصلوا حد الثكنة قرب إبني ورفاقه ليقفزوا ويصبحوا داخل الثكنة. فجأة صرخ رفيقه دعست على لغم بالأرض فجمدوا كلهن بالأرض وصاروا يأشروا وصاروا يفكروا شو يعملو وما ينفجر اللغم ويعرف الإحتلال بوجودهن فقام إبني معن الله يرحمه إنبطح جنب رفيقه ومسك البوط يلي لابسه وقله اشلحه شوي شوي وقله لما تشيل إجرك أقفز شي مترين وانبطح وقال للباقيين انبطحوا منشان ما ينصابوا وقت ينفجر اللغم وبسرعة شال إيديه عن البوط وسكّر عيونه ودينيه وايديه عاراسه ورفقاتو كمان عملو هيك وتطلعوا باللغم كيف بدو ينفجر بس لطف من الله اللغم ما انفجر، ولكن جنود الإحتلال حسوا عليهن واشتبكوا معهن حوالي عشر ساعات وأكثر لحد ما خلصت معهن الذخيرة واستشهد إبني والشباب يلي معه بالدورية.
وبتذكّر كمان لما رحت على قرية الشجرة سنة 2012 بعد غربة طالت 64 سنة وبوقتها قلت:
يا عين المي كان الشجر جاري
بعد نبعك يا عين المي جاري
لكن الزمن بالظلم جاري
بعد ما تغرّبوا شمول الاحباب
وصرت اقول لقريتي عتابا ودلعونا.
فقلتُ له: على سيرة الدلعونا عمي أبو عرب من أين جاءت هذه التسمية فقال لي: كان أهل القرى بفلسطين أيام زمان كل ما صار موسم الحصاد أو قطف الزيتون أو حتى لما كان حدا بدو يبني بيته ومحتاج للمساعدة فكانوا الناس بهذه المناسبات يطلبون مدّ يد العون لحد ما صار الطلب مختصر بكلمة دلعونا وكانوا لما يخلصوا من إنجاز شغلهم يجتمعوا حول الدبكة ويغنوا دلعونا يلي صارت جزءاً من الأغنية الشعبيّة التراثية الفلسطينية وأصل الكلمة دلعونا بتعني متل ما قلنا مدّ يد العون.
فقلت له: وإنت يا أبو عرب شو قلت بالدلعونا فقال:
على دلعونا وعلى دلعونا علّي يا شراع وغطي هالكونا علّي يا شراع عالغيم العالي ونجوم النصر حولي بتلالي مشتاقة روحي لنسم جبالي مشتاقة نفسي زهر الليمونا يما يا يما لا تبكي وداعي والليلة ابنك طيّار شراعي ولو ملكتونا كل المعمورة ما بتسوى بأرضي حبة بندورة.
وحكاية أبو عرب لم تنتهِ فما زالت مستمرّة بمواويله ولهفة العودة للبيارة والكروم والدروب يلي بعدها مثلنا عم تقول:
راجع عا بلادي راجع عا بلادي
عالأرض الخضرة راجع عا بلادي.
أنا وأولادي عالأرض الخضرة راجع عا بلادي.
*كاتب وإعلاميّ.