الدولة المدنيّة… خلاصنا من النفق الأسود
د. واجب علي قانصو _
يعيش لبنان اليوم بحراً هائجاً من المصاعب والآلام والأزمات تحوّلت ظلاماً قادنا إلى التشاؤم، وبات التفاؤل أحياناً سُخرية بدرجة أنّنا صرنا نجد في القبح جمالاً وكأنه هروب إلى الوراء، فمنذ بداية العام 2019 لا سيما بعد إعلان الحكومة اللبنانية عدم قدرتها على تسديد الديون المتوجّبة، فُرضت على لبنان تداعيات وتحدّيات جمَّة أكبر من قدرته على التحمُّل، أعدمت عامل الثقة به، أبرزها عدم التفاوض مع الدائنين للبحث في استحقاقات اليوروبوند خاصة أنّ التصنيف الإئتماني للبنان بلغ اليوم فئة التعثر الانتقائي وهو أدنى سلّم في التصنيف، ومسألة حجز أموال المودعين في المصارف (حوالي 90 مليار دولار أميركي)، المصارف وأزمتها، النقد وسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وإمكانية استقرار العملة لإنقاذ الشعب اللبناني من الفقر وتوحيد أسعار الصرف في السوق اللبناني، أزمة الناتج المحلي الذي يتوقع أن ينخفض من 53 مليار دولار العام الماضي إلى حوالي 18 مليار دولار هذا العام نتيجة الانكماش الاقتصاديّ بنسبة 7% وتراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، المشكلة الاجتماعية التي تفاقمت مع تزايد نسبة الفقر التي بلغت حوالي 55% من الشعب اللبناني، وغيرها من الأزمات المتراكمة.
وكانت الضربة القاضية مع جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، واليوم مع عدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة، مما يؤخر أيّ إيجابية للقيام بالخطط الإنقاذية المطلوبة التي تُخرجنا من هذا النفق الأسود. يبدو أننا فعلاً بحاجة إلى “معجزة” حقيقيّة تُعيد الثقة للبنان. وللخروج من الأزمة، وحسب معظم التقارير الدوليّة، نحن بحاجة الى حوالي 24 مليار دولار حتى 2024، لكن الحصول على هذه الاحتياجات المالية يتطلب القيام بمجموعة إصلاحات، إنْ تحقَّقت، قد تُؤدّي إلى بعض النتائج الإيجابية على مدى السنوات الخمس المقبلة. ولكن أيّة إصلاحات إيجابية ممكن أن تُجدي نفعاً في ظلّ نظام سياسي كهذا؟ ومَن سيكون فريق إدارة الأزمة الذي سيدير عملية إنفاق “الديون الجديدة” في حال حصلنا عليها لا سيّما من صندوق النقد الدولي؟ وما هي الشُّروط؟ أَلَن يُعِيدنا الزمن ونغرق مجدَّداً بعد سنوات إلى ما قبل 2019؟
عُذراً على التشاؤم! لأنَّ الأمل لا علاقة له بالواقع! طروحات متعدّدة، نظريات كثيرة، أرقام اقتصادية ومالية من كلّ حدب وصوب، وطائفيّة تنخر في كلّ زاوية من زوايا الإصلاح! وهنا يكمن الأصل! كُثر طرحوا، مثلاً، إنشاء “مجلس النقد” والاستفادة من تجارب الدول التي نجحت في اعتماده، إلا أننا لا يمكننا مقارنة لبنان مع أيّ بلد آخر يُعتبر بلداً منتجاً. لذلك يجب الحذر من تطبيق أيّ نموذج، على الأقلّ، من دون تأمين مناعة القطاع المصرفي واستعادة سلامته، وتنشيط سوق العمل لدعم الزراعة والصناعة، والانتقال من الاقتصاد الرَّيعي إلى الاقتصاد المنتج، فليس هناك وصفة واحدة لنظام يُطبّق في كلّ الاقتصادات لأنّ لكلّ دولة ميزاتها وخصوصيتها. وكيف بلبنان الذي يملك نكهة خاصة؟ أوَلا يحتاج هذا النموذج إلى تعديلات في كثير من القوانين المعمول بها؟ وهل ستسمح الطوائف المسّ بصلاحيّاتها الممنوحة لها في المؤسسات المعنيّة وفقاً للقوانين المرعيَّة الإجراء؟
وأما قطاع الطاقة، البند الإصلاحي الأبرز والذي استهلك على مدى السنوات الماضية وما زال النسبة الأكبر من عجز الموازنة (حوالي ملياري دولار سنوياً)، ألم يصبح رمزاً لفشل الدولة نتيجة الخلفية الطائفية والمذهبية التي أدارت هذا القطاع؟
ناهيك عن القطاع العام الذي تتفشى ظاهرة الفساد فيه، نتيجة الطائفية المتجذّرة، وتغلغلها في أروقته بغياب مؤسسات الرقابة للقيام بواجباتها وضمان تنفيذ القوانين، والإدارة الرشيدة (الحوكمة) التي من شأنها رفع الكفاءة في المؤسسات الحكومية وتعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وتحقيق مبدأ المساءلة والمحاسبة، والتي من شأنها أيضاً إحداث تحوّل في الإنفاق العام والتركيز على إيجاد إصلاح واسع لإيرادات الدولة في سبيل تخفيض نسبة العجز في الموازنة العامة.
عُذراً على التشاؤم! يبدو أنّ التفاؤل في هذه الظروف يكاد يتحوّل إلى وقاحة! لأنّ النزاعات السياسية الضيقة والتي أصبحت جزءاً من الفولكلور اللبناني تعيق فعلياً فكرة الإصلاح. إذ لا يوجد في لبنان دولة ومقوّماتها بل لدينا دويلات طائفية مذهبية تدير كلّ منها دولة بحدّ ذاتها، وحينما نتكلم عن الدويلة الطائفية لا نعني بها فقط المساحة الجغرافيّة بل أيضاً للأسف المؤسسات. مما يعزّز لدينا القناعة التامة بأنّ هذا النظام الطائفي لا يُولّد إلا الأزمات: سياسية، اقتصادية، مصرفية، نقدية، مالية، اجتماعية… وما المعضلة التي نعيشها اليوم سوى وليدة هذا النظام العفن الذي لم يعُد يصلح لإدارة بلد ومشكلاته، بل صار عائقاً أمام أيّ تطوّر ونهوض بالبلد، فهو بحُكم الميت، ولا ينتظرنّ أحد أيّ إصلاح اقتصادي مالي من دون الإقلاع بداية من الإصلاح السياسي والذهاب إلى دولة مدنية فعّالة وعصرية.
من هنا، الدعوة لجميع الأفرقاء في لبنان أن يلتقوا حول طاولة حوار للبحث جدّياً بنظام سياسيّ جديد، يؤمّن قيام الدولة المدنية العادلة، دولة المواطنة، التي تحمي لبنان وتُلغي القيود التي يفرضها النظام الطائفي الصَّدئ على بنيان الدولة وقوّتها في مواجهة التحديات لربّما نرى شيئاً في الحياة جميلاً.
*عضو مجلس إدارة هيئة الأسواق الماليّة