أيها الحاكمون… اعتذروا أولاً من شعبكم وليس من بعضكم
} علي بدر الدين
لا شيء يوحي في لبنان، بأنّ أوضاعه المأزومة جداً على كلّ الصعد والمستويات، ستسلك قريباً الطريق السوي، أو تنتج معالجات جدية، أو تثمر حلولاً، تعيد الأمل لشعب فقير وجائع ومقهور، ومكسور الخاطر، ومسكون بالخوف والقلق، ويعيش تحت وطأة فيروس كورونا، الذي تجاوز بخطره وتداعياته وآثاره كلّ الأخطار التي مرّت على هذا البلد، حتى الحروب الكبيرة والصغيرة الطائفية والمذهبية والحزبية الضيّقة، التي قتلت ودمّرت وشرّدت وهجّرت، ولم يضاهِه سوى انفجار مرفأ بيروت الزلزالي والكارثي.
المشهد الأسود الذي يخيّم في لبنان وعليه، لم يأت من عدم أو فراغ، أو فقط بفعل خارجي موجود ومقيم وضاغط ومستمرّ، بل بفعل سياسي داخلي متراكم منذ تشكل نظامه السياسي الطائفي والمذهبي والسلطوي، الذي قام أساساً على التحاصص والمناصفة الطائفية والمذهبية والزعائمية في كلّ السلطات وامتداداتها في المواقع السلطوية والوظيفية والامتيازات والصفقات والسمسرات، مهما كان نوعها وحجمها، على قاعدة هذه لك وتلك لي، و»شيلني وأشيلك»، كأنّ هذا النظام عقد مقدّس، غير مسموح المسّ به، وأيّ خلل في توزيع الحصص والمنافع، يعني بكلّ بساطة وجود غالب ومغلوب، ويؤدّي إلى أزمة، بل أزمات مستعصية، وإلى صراعات وفتن ومعارك بين مكوّن أو مكوّنات الشعب اللبناني.
هذا ما شهده اللبنانيون منذ فتنة 1860 وما تلاها لغاية اليوم، حيث يدفعون وحدهم الثمن الباهظ في الأرواح والأملاك والاستقرار والأمان، وما زالوا، في حين أنّ أركانه والمستفيدين منه، الذين بنوا وطناً من رمل او كرتون وطوع مصالحهم، يصرّون على التغنّي به، وانّ فيه أفضل الجامعات والمستشفيات والصحافة والإعلام والحرية والعدالة الاجتماعية، إلى آخر منظومات الحضارة والرقي ونشره الأبجدية وتعميم الثقافة والمعرفة. ولكنه بفضل حكامه المتعاقبين والمدّعين المنافقين ومافيات الاحتكار والمال والمصارف والفاسدين، يسقط ويتقهقر وينحدر ويتهاوى، ومع تراكم الأزمات والديون والنهب والفساد بدأ يتراجع إلى الوراء إلى أن بلغ حداً غير مسبوق من الأخطار والانهيارات المتتالية، في القيَم والاقتصاد والمال، وفي كلّ قطاع إنتاجي على مستوى الصناعة والسياحة والتعليم، ولم يبق فيه أيّ شيء على حاله، قد يعطي بصيص أمل لانتشاله أو إنقاذه من جديد.
الثابت الوحيد الذي لم يتغيّر على أرضه المحروقة، هي الطبقة السياسية الحاكمة في كلّ مراحل الجمهورية وحقباتها وعهودها وحكوماتها ونوابها وسلطاتها المتعددة، في أيّ موقع سلطوي كانت. وإذا كان هناك بعض الإنجازات قد تحققت في الماضي فإنّ العقلية السياسية المتحجّرة والنفعية أفسدتها وشوّهت صورتها وعملها، وصادرتها وحوّلتها إلى مزارع خاصة لها ولأزلامها، وكأنها أملاك مشاع سائبة. وقد نخرها سوس الفساد من الحجم الكبير، وكأن لا علاقة للدولة والشعب فيها، لأنّ منافعها تذهب حصراً إلى جيوب وحسابات من وضع اليد عليها من دون سواه.
لا غرابة أو عجب في تكدّس وتراكم ثروات الطبقة السياسية والمالية والسلطوية الحاكمة منذ اتفاق الطائف، وهي برأي الكثيرين، أسوأ طبقة سياسية وأكثرها فساداً وجشعاً ونهباً للمال العام والخاص شهدها لبنان، أقله منذ إعلان دولة لبنان الكبير، ورغم ذلك فإنها لا تخجل أبداً، بل تدّعي العفة والوطنية والحرص على الوطن والدولة والشعب والمؤسسات، تطلق بوقاحة وعودها الكاذبة والجوفاء، وبأنها ما زالت تملك قرار الحلّ والإصلاح والتغيير والإنقاذ، ومفتاحه في جيوبها خبّأته لحين حشرها. غير أنّ حبّها المبالغ فيه كثيراً، «مسح» الأرض وما عليها من قوانين ودساتير وبشر وحجر، وهي اليوم تزداد تسلطاً وثراء والشعب يزداد فقراً وجوعاً ومرضاً ونهايته الجهنمية باتت محتومة.
هذا البلد المنكوب أصبح على» إصبع عفريت» قابل للقطع والسقوط في أيّ لحظة، وهذه الطبقة ما زالت تبحث عن جنس الحكومة وملائكتها، وعن حصصها، وتتقاذف الاتهامات والمسؤوليات بالعجز والتقصير والفشل، من دون أن يلوح في الأفق البعيد والقريب بارقة أمل وحيدة للتأليف الذي بات مرهوناً بكلمة اعتذار من هذا المسؤول أو ذاك المسؤول، باتت عصية على النطق، من أيّ أحد، رغم المبادرات والاقتراحات والصيغ والصلوات والدعوات، لفكّ عقد الألسن وإزاحة المصالح الآنية والمستقبلية ولو مؤقتاً رأفة بهذا الشعب المسكين، ولوأد المصادر الاتهامية المتبادلة التي تعقد الأزمة الحكومية المفتعلة أصلاً ولغايات ومصالح خاصة جداّ، وقد حوّلت تجاذباتها وسجالاتها العقيمة، إلى ما يشبه حلبة ملاكمة، أو مباراة شدّ الحبال، أو كباش الأيدي، وتنتظر، من يصرخ أولاً، ولمن ستكون الغلبة بين فريقين سياسيين أو أكثر، ولا همّ عندهم، إنْ جاع الشعب أو مرض أو مات، المهمّ أن يفوز أحدهما ويخسر الآخر، في معارك جانبية لا مصلحة فيها لوطن ينهار وشعب يذوق كلّ يوم القهر والذل والحرمان والإهمال المتعمد، ولا يعرف ما ينتظره في الزمن الآتي.
لا أحد من الشعب اللبناني، الشريك بطريقة أو أخرى، في ما يحصل له، أن ينتظر أو يتوقع أنّ هذا الصراع العبثي والمصلحي والتحاصصي سيكون مردوده إيجابياً عليه، مهما بلغ من الحدة وادّعاء الحرص عليه، لأنه من الأساس، ليس صراعاً من أجل المصلحة العامة، ولا يمكن لهذه السلطة أن تخلع جلدها أو تتنازل عن «قدر» من مصالحها وأطماعها وتحاصصها، حتى لو تحوّل لبنان كله إلى ركام والشعب إلى القبور.
وهذا الكباش في آخر المطاف سيؤدّي إلى تسوية مشبوهة وملغومة ولكن بعد خراب لبنان، وقد شهد اللبنانيون مثيلاً لها في الماضي القريب، وإنْ طالت قليلاً هذه المرة وارتفع منسوب خطابها، إلى حدّ الاعتقاد انّ المصالحة معدومة.
إطمئنوا أيها اللبنانيون، واغرقوا بفقركم وجوعكم وصمتكم المريب لأنّ الفراق لن يطول على قاعدة المصلحة السياسية، النفعية الحصصية المشتركة في كثير من القضايا والملفات والاستحقاقات القائمة والداهمة، ورحم الله من مات، وشفا كلّ مريض، وعوّض عليكم أموالكم المنهوبة وحقوقكم المصادرة، وما لكم سوى الصبر الجميل، والدعاء لأولياء نعمكم بطول العمر.