المناعة السلوكيّة لكوفيد 19.. حقيقة خارج الزمن!
} د. رندة أحمد عبد الكريم*
في محاولة ذاتيّة لمقاربة العلاقة بين الانسان وفيروس كورونا الظاهرة أو الواقعة من الناحية السوسيولوجية، نجد أنفسنا أمام مشكلة مجتمعية متجذرة منذ زمن، وهي سلوك الأفراد غير المنضبط تربوياً وأخلاقياً واجتماعياً.. والذي فرض إشكالية التفشي المجتمعي للمرض لافتقاد الأفراد للمناعة السلوكية التي خلقت بيئة حاضنة للفيروس.. وصلت حدودها الى قلب العائلة النواتية التي عمقت وجود الكورونا في علاقاتها الأسرية التي راكمت لفترات زمنية طويلة مشكلات متنوعة ومتعددة من التربية الى الإدارة الاقتصادية مروراً بالخيانة والطلاق والاغتصاب والعنف اللفظي والجسدي…. وحين أتى وقت مواجهة الجائحة عبر توحّد الأسرة في زمن الحجر.. باتت تغرّد خارج سرب الزمن والواقع والحقيقة والمعاني الذاتية.
من هنا يمكننا أن نستخدم مقولة أن علم الاجتماع لم يعد فقط علم المؤسسات، كما عرفه إميل دوركايم وإنّما أصبح أيضاً منشغلاً بالمعاني الذاتية التي يمنحها الأفراد لسلوكهم. بمعنى آخر تدرجنا بفكرة المجتمع من الوضعية إلى التفهمية التي تحاول فهم سلوك الفرد وتفسيره سببياً من جهة كونه عقلانياً وموجهاً بأهداف تحكمه.. وهنا كثير من الأمور على المحك، على حد تعبير عالمة النفس بجامعة ييل، مولي كروكيت، وزملائها في ورقةٍ بحثية نشروها، حول العلوم السلوكية في ظل تفشي فيروس كورونا: «من أجل إبطاء جائحة فيروس كورونا؛ يجب على الأصحاء أن يتخذوا خطوات أساسية لتغيير سلوكهم، وفعل ذلك يُمكن أن ينقذ حياة الآلاف وربما الملايين». ولكن الخطأ قد يُؤدي إلى تداعيات كارثية!
وهنا وقعت الكارثة حين كان السلوك في زمن الكورونا خارج الزمن.. وخارج المفهوم الاساسي للنظرية السلوكية التي تهتم بالتركيز على السلوك البشري وتحديد إمكانيات تعلم العديد من السلوكيات وإمكانية تغيير هذه السلوكيات.
كما يمكننا أن ننطلق من مقولة أخرى لكي نفهم حقيقة الكورونا البشرية، والتي تعتبر أن الحجر الصحي في مواجهة جائحة كورونا، مثل لحظة اجتماعية كثيفة، من شأنها أن تُعيد التفكير في مفهوم الزمن كقوام للحقيقة الاجتماعية، وهي فرصة لإعادة الاعتبار كذلك لفكر ابن خلدون، الذي جعل الوقائع عوض الظواهر الاجتماعية موضوعاً لعلم الاجتماع (واقعة جائحة كورونا مثلاً)، بالنظر إلى أهمية البعد التاريخي في صياغة الواقع الاجتماعي، وهي أهمية حدت به آنذاك لكي يفرد فصلاً حول علم التاريخ قبل أن يتناول موضوع علم العمران البشري في مقدمته الشهيرة.
في مفهوم الزمن يقول كارلو روفيلي «الزمن هو الغموض الذي أزعجنا دائماً، وأثار المشاعر العميقة. ربما لأنه، كما قال بوذا، فإن صعوبتنا في التعامل مع عدم الدوام (أو مرور الزمن) هي أساس معاناتنا..»، لذلك انبجست فروع جديدة لعلم الاجتماع، تأكيداً لأهمية العنصر الزمني في مقاربة قضايا المجتمع، كما هو الحال بالنسبة لسوسيولوجيا الزمن الاجتماعي، التي تمكن من خلال مساهمة مفكرين كثر أمثال روجي سو، رودولف ريتشوهاز، لوك بولطانسكي وغيرهم، من النظر إلى زمن الحجر الصحي من خلال اعتبار الزمن أثناء الحجر الصحي كميزانية ينبغي إنفاقها بشكل معقلن ومجدٍ، عبر تحديد أهداف يومية من المكوث في البيت، فضلاً عن إمكانية الرصد النسقي للخلل الوظيفي للسلوكيات الاجتماعيّة.. التشوهات من الضآلة بمكان، بحيث تستعصي علينا ملاحظتها.
وبالعودة الى روفيلي الذي اعتبر أيضاً في إطار طرحه لمفهوم الزمن أن العلم يتطوّر باستمرار، ويتطلب ذلك في كثير من الأحيان التخلي عن بعض الأفكار الخاطئة. كان لا بد من طرح هذه الفكرة ومقاربتها مع الحجر المنزلي حيث نجد تخلي العديد من العائلات عن الأفكار الخاطئة التي سبق وترجمت في علاقاتهم الأسرية، التي سببت لهم الطلاق والاكتئاب وانعكست على أوضاعهم النفسية وصحتهم الجنسية والإنجابية، الأمر الذي أدى الى خلق عدد من الإيجابيات للحجر المنزلي، من التضامن الأسري، وزيادة التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، الى الممارسات الإيجابية، من تغيير السلوك، وإتاحة الفرصة لتطوير الذات، والتعرف بشكل أكبر إلى هوايات ومهارات الأبناء، وتغيير بعض العادات السلبية التي كانت جزءاً من الحياة اليومية، والتي ساهمت في استقرار وتماسك الأسرة، والمجتمع، استناداً إلى مفهومي التماسك الأسري والتلاحم المجتمعي.
إلا أننا ومن مقاربتنا العلمية السوسيولوجية الواقعية والموثقة نرى أن هناك من يغرد خارج حدود الزمن ولم يتخل عن الأفكار الخاطئة على المستوى الأخلاقي والسلوكي.. ومن هذه الافكار او هذه السلوكيات ما نجده في الأسرة أثناء فترة الحجر، حيث نرى إهمال الأطفال وتقليص الإشراف عليهم.. ازدياد الإساءات والعنف المنزلي/الشخصي ضدهم.. بالاضافة الى التسمم وغيره من التهديدات، التي تصل إلى خطر الإصابة بحوادث منزلية وجروح بين الأطفال.. وصولاً الى حالات معينة من القتل.. وضغوط على خدمات حماية الطفل أو نقص إمكانية الحصول عليها.. كما ونشير الى ازدياد خطر الاستغلال الجنسي للأطفال، بما في ذلك الجنس في مقابل تقديم المساعدة، والاستغلال الجنسي التجاري لهم، ولا ننسى الزواج المبكر القسري.. والضغوط على خدمات حماية الطفل/ الخدمات المتعلقة بالعنف الجنساني أو نقص إمكانية الحصول عليها..
ولا بد أن ننوّه هنا، أنه من المحتمل أن يصبح الطفل الذي تعرّض للإساءة هو المسيء في مرحلة البلوغ، وبالتالي أن يتسبّب العنف المنزلي خلال زمن الكورونا في إعادة إنتاج العنف عبر الأجيال.
في السياق نفسه، لا بدّ من التوقف عند السلوكات التي تتعرّض لها المرأة؛ فهي وعلى الرغم من تعرّضها قبل الجائحة للعنف والاغتصاب والقتل والضغوط النفسية والجسدية التي أوصلتها في كثير من الأحيان الى الانتحار.. إلا أنها تعرّضت أثناء الحجر الى المزيد من العنف.. كما وتجدر الإشارة هنا، الى انضمام معنفات جديدات في زمن الجائحة والحجر المنزلي إلى دائرة العنف.
وغالبًا ما يزيد العنف ضد النساء في أوقات الطوارئ والأزمات، بما فيها الأوبئة. ويمكن أن يتفاقم خطر تعرُّض النساء للعنف بسبب الضغط النفسي، وتفكُّك شبكات الحماية الاجتماعية، والتعثُّر المادي للأُسر نتيجة زيادة الصعوبات الاقتصادية.. بالإضافة الى نوع آخر من العنف وهو “العنف الإلكتروني” الذي ازداد طردياً مع زيادة استخدام الناس للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من تعرض الرجال لهذا النوع من العنف والابتزاز من خلال حسابات وهمية بأسماء وصور نساء، تُستغل للحصول على محادثات أو صور وتسجيلات، ويُهدّدون “بالفضيحة” ويدفعون مالاً كثيراً مقابل عدم نشر الصور. وعلى الرغم من انجرار الرجال وراء هذه المحادثات لأسباب فرضتها الجائحة والتي تتراوح بين القلق والخوف من الموت، والشهية الجنسية وهي الشهية على الحياة عندما نخاف من الموت أو من العيش في الوحدة أو فقدان الأحبة.. إلا أن عددهم أقل بكثير من عدد حالات العنف الإلكتروني الذي تتعرّض له النساء. ونشير هنا الى ان العنف الإلكتروني: “يتخذ أشكالاً متعددة، منها التهديدات المباشرة أو غير المباشرة باستخدام العنف الجسدي أو الجنسي؛ والإساءة التي تستهدف جانباً أو أكثر من جوانب هوية المرأة، من قبيل العنصرية أو رهاب التحوُّل الجنسي؛ والمضايقات المستهدفة؛ وانتهاكات الخصوصية، من قبيل نبش معلومات خاصة عن شخص ما ونشرها على الإنترنت بقصد إلحاق الأذى به؛ وتبادل صور جنسية أو حميمة لامرأة من دون موافقتها.
بناءً عليه، نرى بأن الأشخاص الذين تعرّضوا للعنف عامة ولعنف الشريك خاصة معرَّضون لمخاطر الإصابة ليس بالكورونا في هذه الحالة بل بأمراض عقلية متعدّدة (اضطرابات المزاج، اضطرابات القلق، اضطرابات الأكل، اضطراب ما بعد الصدمة، تعاطي الكحول)، إضافةً إلى الأمراض الجسدية المحتملة (أمراض القلب والأوعية الدموية، والآلام المزمنة، واضطرابات النوم، ومشكلات الجهاز الهضمي).
من هذا المنطلق، وعلى الرغم من ضرورة المواجهة عبر التضامن الأسري والتوافق على استراتيجية الانتصار النفسي والصحي والاقتصادي على ما سببته الجائحة من أمراض نفسية وجسدية.. الا أن الواقع كان غير ذلك عند معظم الأفراد والأسر المتواجدة خارج الزمن الأخلاقي والثقافي والتربوي.. وعليه، نطرح المقولة التالية: “زمن الحجر الصحي كتأمين جمعي من المخاطر بلغة إلريخ بيك”: ذلك أن المخاطر هي تركيبة يلعب العنصر البشري دوراً هاماً في تمفصلها سلبياً أو إيجابياً حسب باحثين كثر أمثال جوليان وزبن، لهذا فدور المجتمع في درء المخاطر جعل بعض الباحثين كجوناس هانس يعتبرون أن سوسيولوجيا المخاطر هي في الأصل سوسيولوجيا الوقاية واتخاذ الاحتياطات، ولا شك في أن فرض الحجر الصحي الصحي فضلاً عن الإجراءات الأخلاقية والسلوكية الاستباقية لمواجهة جائحة كورونا، تعزّز كذلك بالتساند الوظيفي، بلغة الاتجاه الوظيفي، عبر الامتثال لقواعد الحجر الصحي والتباعد، بالإضافة الى التساند بين الأسرة الواحدة والسلطات والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية.. يحقق إنجاز المواجهة والتغلب على المرض والانتصار عليه.
أما في مجتمعنا وعلى الرغم من أننا نواجه العديد من حالات الطوارئ الإنسانيّة والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وعلى الرغم من وجود عدد هائل من اللاجئين والنازحين، والذي يفترض من الشعب أن يشكل قوة ضغط متجانسة لمواجهة الجائحة.. الا أننا وصلنا الى حدود الكورونا الشعبية والتطرف السلوكي الذي حول الفيروس الى لاجئ دائم في الجسد لا يريد الخروج ولا يمتلك الجسد أية مناعة سلوكية لقتله وإبعاده..
مع كل هذا يفترض أننا خارج الزمن.. ولم نضف أي شيء لمواجهة الجائحة حيث لم نستطع أن نحمي أنفسنا ومجتمعنا ما يفترض أننا خارج التمثلات الاجتماعية التي يضفيها الأفراد على الزمن، على عكس تعريف جان كلود بريك للتمثلات، بيد أن هذه الأخيرة، كتصورات مبنية، لعبت دوراً هاماً في تثبيت رؤيتنا الإيجابية للزمن الاجتماعي أثناء الحجر الصحي، بما هو زمن يوفر غطاء متيناً للحماية ودرء المخاطر، لأن هذه التصورات تمركزت في النواة الصلبة للتمثلات، وليس في منطقة الحواشي المتحركة التي تناسب القضايا العابرة، إنها نواة تتميز بالثبات، مما مكن إلى حد كبير من استقرار آرائنا وبالتالي تصرفاتنا امتثالاً لزمن الحجر الصحي.
نهايةً، أي شيء يقلل من خطر العدوى في المقام الأول يقدم لنا ميزة واضحة للبقاء. لهذا السبب، طور البشر بلا وعي مجموعة من الاستجابات النفسية، أطلق عليها تشالر “جهاز المناعة السلوكي”، لتكون بمثابة خط الدفاع الأول لتقليل اتصالنا مع مصادر الأمراض المحتملة. الا أننا ما زلنا نفتقد الى المناعة السلوكية الاجتماعية والعلائقية التي حولت فيروس كورونا الى أجسادنا البيولوجية والعائلية والمجتمعية.. وان رحل من أجسادنا الا انه سيترك أثره في أجساد وأرواح النساء المعنفات أو في عقول الأطفال وأفكارهم وأحلامهم..
*كاتبة وباحثة اجتماعية