ذهب ترامب وأتى بايدن.. ما العمل؟!
د. جمال زهران*
أخيراً، ووسط أجواء كلها مصحوبة بالقلق والمخاوف، رحل ترامب غير مأسوف عليه، مُنكسراً، مُحطّماً، بل كان بقايا مبعثرة لشخصية كانت تصرّ على أن تكون أسطورية، ولكنها تهاوت! وأتى إلى الساحة والمشهد رئيس أميركي جديد هو جو بايدن، الهادئ، والواثق، ودخل إلى البيت الأبيض وسط احتفالات هادئة، قد ترجع إلى «وباء» كورونا، وكذلك تحسّباً لأية مفاجآت قد تعكّر صفو المشهد ويهدّد نقل السلطة الذي يجب أن يكون هادئاً، نتيجة التهديدات المتلاحقة!
فللمرة الأولى، لا يحضر رئيس أميركي ساقط في الانتخابات أو انتهت مدّته، احتفالية ومراسيم نقل السلطة للرئيس الجديد، بسبب عدم اعترافه بنتيجة الانتخابات والتشكيك فيها، بل وصل الأمر إلى حدّ تحريض الشعب لاقتحام الكونغرس، لمنع اعتماده لنتيجة الانتخابات يوم 6 يناير/ كانون الثاني 2021، والتهديد بعدم تسليم الحقيبة النوويّة. وهو أمر لم يسبق أن حدث، باستثناء 6 حالات عدم حضور ومشاركة في احتفالية التنصيب للرئيس الجديد طوال 250 سنة هي عمر الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها، وأول رئيس منتخب فيها، ولكنها كانت لأسباب أخرى، لا تتعلق بعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات، كما حدث من ترامب. وهنا نتذكر تلك الحفاوة التي قام بها أوباما، يوم نجاح وتنصيب ترامب، وتعاون معه وحضر الاحتفاليّة، يوم 20 يناير/ كانون الثاني 2017، وكان يوماً مشهوداً. إلا أنّ ترامب لم يقبل الهزيمة أو يعترف بها أو بنجاح بايدن! وهي بلا شك نقطة سوداء في ثوب الحزب الجمهوريّ، سيعاني منها فترة طويلة مقبلة، والأيام ستشهد ذلك. وقد كتبت في المقال السابق، أنّ ترامب خرج من التاريخ إلى غير رجعة، وستخرج «ظاهرته» من التاريخ أيضاً ولن يكون لها عمر، على عكس من يتصوّرون أنّ هذه الظاهرة «الترامبية»، ستكون مستمرة لفترة طويلة!
وفي هذا السياق، فإنّ جميع مقالاتي خلال الأشهر الستة الماضية وحتى آخر مقال في الأسبوع الماضي، وما تضمّنته من توقعات في إطار منهج قراءة المستقبل واحتمالاته وفقاً لمدرسة العلوم السياسية، والاتجاهات الحديثة في علم المستقبل، قد ثبتت صحتها في الواقع العملي.
حيث توقعنا إزاحة ترامب وسقوطه في الانتخابات وحتمية خروج الحزب الجمهوريّ من السلطة وفقاً لمعطيات واضحة أوردتها في مقالاتي. وحتى الفترة الانتقالية وإدارتها من ترامب، أشرت رغم كلّ العواصف، أنها في طريقها إلى الانتقال الفعلي للسلطة إلى بايدن، واضطر ترامب في النهاية، إلى التسليم والخروج من البيت الأبيض، رغم إعلانه أنه لن يغادره. كما توقعت ألا يكون ترامب هو آخر الرؤساء، وأن أميركا في طريقها إلى التفكك ليلة تسليم السلطة لبايدن، بحيث لا يتمكن بايدن من تولي الرئاسة فعلياً. فقد خرج ترامب، من البيت الأبيض، ودخل بايدن، ولم يحدث شيء من توقعات «السطحيّين» في التحليل السياسي!
ومن الغريب أن يكون ردّ فعل من نوعية هؤلاء السطحيين، أن توقع نجاح بايدن كأنك أصبحت من المؤيدين له، أو للديموقراطيين في أميركا، وأودّ أن أذكرهم أنني من القلائل الذين توقعوا نجاح ترامب في مقال لي بالأهرام القاهريّة، قبل إجراء الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بشهر تقريباً، لدرجة أن وجه البعض نقداً، من دون حتى أن يُتعب نفسه بقراءة المقال آنذاك، خاصة أنّ الصفحة ذاتها، وبأقلام كتاب كبار، كانوا يتوقعون نجاح هيلاري كلينتون، ويرحبون بها، ويطالبون القيادة السياسية بالاستعداد للتعامل معها!
فالتحليل السياسي لا يعرف «الكره أو الحب»، أو المشاعر، عندما يكون موضوعياً، أيّ بالتعاطي مع الموضوع، والالتزام بقواعد التحليل العلمي، وقواعد التحليل المستقبلي في علم السياسة. على عكس العرّافين الذين يتوقعون على حسب ميولهم، ومحاولات إشغال الآخرين بأجندات، ويتكلمون في العموميات، وهو في الأغلب «يحدث ولا يحدث»، ولكنها قراءات مزيفة للعرافين، الذين يجدون مساحات في الإعلام المرئي، ليتمّ التلاعب بإرادة عقول ومشاعر المشاهدين من جمهور «الميديا».
ووفقاً لذلك، فإنّ ترامب، قد ذهب وخرج من التاريخ، وهذا هو توقعي وحدث، وجاء بايدن والديمقراطيون إلى السلطة والحكم في البيت الأبيض، وقد ورثوا تركة ثقيلة عن ترامب، فماذا هو حادث، وماذا نحن فاعلون؟! فقرارات بايدن من أول لحظة لدخوله البيت الأبيض، كانت تدور حول إلغاء قرارات ترامب، المتعلقة بانسحاب أميركا من الاتفاقيات الدولية مثل (اتفاقية المناخ/ باريس)، وبانسحابها من منظمة الصحة العالمية، وغيرها، وذلك بقرار العودة إلى ذلك كله تأكيداً للدور الأميركي الدولي. كما أنه أوقف العمل في السور الفاصل مع المكسيك، وإلغاء قرار منع مواطني دول إسلامية معينة من المجيء للولايات المتحدة! كما اتخذ إجراءات السلامة بالنسبة لوباء كورونا ومواجهته.
ولعلّ قراءة دقيقة في القرارات الأولى لبايدن، تكشف عن التوقعات لسياساته المقبلة، وكلها أمور متوقعة ومحلّ اتفاق غالبية المحللين الجادين.
أما بخصوص القضية الفلسطينية والقضايا الشائكة في سورية ولبنان والعراق وليبيا، وغيرها، فإنني لا أتوقع اهتماماً أميركياً من بايدن، إلا إذا ظهرت واستمرّت أوراق ضغط نابعة من المنطقة، وإلا فإنّ إعادة إنتاج القائم، بما يحافظ على مصلحة الكيان الصهيوني، هو الخيار الأميركي سواء أكان بايدن، كما كان أيام ترامب، وللحديث بقية إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.