«جذور فوق التّراب» لعبد المجيد زراقط.. كشفٌ قصصيٌّ ورؤيوي
د. فاطمة شحادي
«جذور فوق التُّراب» مجموعة قصص قصيرة، للقاصِّ والنَّاقد عبد المجيد زراقط، صدرت مؤخَّراً عن دار « الرَّوافد الثقافية»، في بيروت. تتضمَّن هذه المجموعة خمساً وعشرين أقصوصة، تتوزَّع على ثلاثة أقسام، يتضمَّن أوَّلها اثنتي عشرة قصة، يقول المؤلِّف إنَّه وجدها بين أوراقه القديمة التي سلمت من حريق منزله ابَّان اجتياح 1982، وهي مؤرَّخة في 11/2/1968. ويتضمَّن القسم الثاني ستَّ قصص تندرج تحت عنوان: «حكاياتهم شرحها يطول»، و»هم» ضمير يعود الى «فاسدي هذا الوطن»، والقسم الثالث يتضمَّن سبع قصص تصوِّر كلٌّ منها مشهداً / شخصية من مشاهد الواقع اللبناني المعيش وشخصيَّاته، فتكشف بؤس هذا الواقع، وتحرِّض على تغييره. تبدأ قصص هذا القسم بقصة «الحريق» التي تروي حكاية إحراق المسلَّحين لمنزله بعد سرقته، وعودته الى قريته المحتلَّة، وتنتهي بقصة «… إلَّا الفرح» التي تقول لـ «الحراميَّة»: تستطيعون سرقة كلِّ شيء الَّا الفرح، وهذا ما لا يستطيع «الجراد» أكله في القصة التي تحمل الاسم نفسه. فالفرح بالوطن الجميل الذي يسكن الذات هو «العصيُّ الباقي»، وهو ما لا يستطيع «الجراد» أكله، وما سيعيد جذور الوطن الى ترابها، أو هو الجذور نفسها، فلا يستطيع «السوس»، كما في قصة «غزوة السوس» نخره، ونخر بنى الوطن، وإن غدا أركان هذا السوس يملكون كلاليب تأكل الأخضر واليابس.
تبدأ المجموعة بمقدّمة جاء فيها ما يفيد أنَّ «الليل» الذي عرفه الوطن الجميل، كما بدا في قصة «ليل»، التي فقد فيها الفلّاح زوجته وجنينها، بسبب الحرمان والعدوان الاسرائيلي، لم ينجل، كما بدا ذلك في القصص التي كُتبت بعد خمسين سنة. والواضح أنَّ مغاور اللُّصوص كثرت بعد هذه السنين الطِّوال، ولم تعد تقتصر على مغاور الوطن، وانما غدت مغاور في الخارج هُرِّبت اليها الأموال، كما تكشف قصة «علي بابا الجديد» التي تكشف عن كلمة السر الجديدة لفتح مغارات اللصوص. فالحياة، في زمن هؤلاء اللُّصوص، كما جاء في المقدمة:
«زجاج، وويل لمن يتكسّر ذلك الزّجاج بين يديه…». وتضيف المقدمة معرِّفةً بالمجموعة القصصية:
«في هذه القصص… صور من الحياة في أيّام مرّت، والأيّام لا تكفّ عن المرور، فعسى أن ينجلي اللّيل…».
السؤال الذي تطرحه قصص هذه المجموعة هو:
هل تنبت الجذور فوق التّراب؟ ويليه سؤال اَخر: إن تكن الجذور لا تنبت فوق التراب، فكيف تعود الى ترابها؟
والعمل؟ سؤال اَخر يُطرح. والجواب يتمثَّل في ما تكشفه قصة «فهمناها». ففي هذه القصة يستولي أولو الأمر في القرية: المختار والّناطور وأصحاب الأملاك الكبار على الأنهار، ويحوِّلونها إلى حقولهم مانعين وصولها إلى أراضي الفلّاحين. فتفقد حقول هؤلاء خضرتها… فيضطرُّ كثيرون منهم الى بيع حقولهم للأغنياء!
لكن حكيم القرية والفلاحين يتمكنُّون من إعادة الأنهار الى مجاريها، فتخصب الأرض، ويهنأ الفلاحون… هذا هو الجواب، وهو الجواب نفسه، كما جاء في قصة «حبال القبائل» التي قيَّدت فيها القبائل الناطور الجديد بحبالها، لتحرِّكه بها كما تشاء، فكان السؤال الذي طُرح: لماذا لم يقطع هذا الناطور الحبال التي تقيِّده، وهذا السؤال يذكِّر بالسؤال الذي نطقت به رواية غسان كنفاني: «رجال في الشمس»، الصادرة عام 1963: لماذا لم يدقُّ الرِّجال جدار الخزَّان قبل أن تقتلهم حرارة الخزان الذي يرمز الى الخزان العربي القاتل!؟ الجواب عن سؤال: «ما العمل؟» اذاً هو الجواب عن هذا السؤال، أي ينبغي قطع حبال القبائل، كما كان ينبغي دقُّ جدار الخزَّان في رواية كنفاني.
يقول زراقط، في مقدمته لهذه المجموعة، إنه عندما قرأ القصص التي وجدها بين أوراقه القديمة الباقية، بعد أن فقد كثيراً منها في «الحريق» اَنف الذكر، وفي أدراج بعض مسؤولي الأقسام الثقافيّة عرف أنه «قمع» القاصَّ فيه، لصالح المدرِّس ثم الأستاذ الجامعيّ والناقد، وذلك لأنَّ من يمتهن «حرفة الأدب» لا يستطيع توفير الحياة الكريمة له ولأسرته، إن أراد ألَّا يكون مرتهناً لأيِّ «سلطان». قراءة القصص جميعها تفيد أنَّها نماذج من القصص القصيرة المتميِّزة ببناها المتنوِّعة التي تمثِّل كلٌّ منها، في شريط قصصي قصير مكثَّف، لحظة مهمَّة من الحياة ملتقطَة بوصفها علامة دالَّة، لا يتجاوز زمن القصِّ فيها الأربع وعشرين ساعة، ما يقتضي تكثيف مختلف مكوِّنات البنية، واستخدام تقنيات قصصيَّة كثيرة: استرجاع، استباق، تضمين، تداعيات، حلم… تتمثل هذه اللحظة المهمة الدَّالَّة بنية قصصية كاشفة واقعاً أو شخصيّة أو موقفاً، في نسيج قصصي يتشكَّل من سرد مشوِّق ووصف دالٍّ خلاَّق للمعنى وحوار كاشف للموقف
والشخصية وتداع يتداخل فيه الزمن، وتتعانق فيه أحداثه، ولغة ايحائية، كما في هذا المثال من قصة «الحريق». يقول العائد الى قريته المحتلَّة:
«غزتنا الزّيزان السّود. تأتي هذه الزّيزان النّتنة مثل الجراد. رائحتها كريهة… عندما كنّا ندوسها بأقدامنا، كان يردني خاطر يعذِّبني: نحن الآن نشبه هذه الزّيزان تدوسنا بنادق عدوّنا ودبّاباته وطائراته… ولكن هل من رائحة تفوح منا؟ من هزائمنا!؟». يبدو أنَّ هذه البنى القصصيَّة تمثل كشفاً قصصياً جديداً يضيف الى رصيد القصِّ القصير جديداً مهماً تكشف رؤاه الواقع المعيش الذي يمليه.
فنقرأ، اضافة الى ما سبق ذكره، في غير قصّة، صورة عن طبيعة المسؤولين السيّاسيين الذين يديرون البلاد، وهو لم يسمّهم، ما يدلّ على تمثيلهم حالة عامة، فقد تسلّقوا ووصلوا، وتولّوا المسؤوليّة، بعد أن انتموا إلى بعض الأحزاب المشاركة في الحكم… كما في قصّة «المصيدة» التي تروي حكاية «فاسد كبير» وقع في مصيدة تتمثل في أنَّ فتاة جميلة طاردها طويلاً، كعادته مع الحسان اللواتي كان يفتخر باصطيادهن، تقوده هذه الفتاة، بتدبير من أحد خصومه، وهم كُثر، الى غرفة مقفلة، وتتركه عارياً أمام قبر، وليس معه أيُّ وسيلة اتصال، فيتدفَّق تيار تداعياته، وتختلط الأزمنة في وعيه ولاوعيه، في ديمومة تصوِّر شخصية تمثل حالات فساد عامة يعاني منها الوطن. تنتهي تداعيات هذه الشخصية التي تمثِّل حالات الفساد، بعد أن تقع في المصيدة، بدعوة الدولة لإنقاذها، لكنها تتساءل: هل تأتي الدولة في هذا الزمان؟ وهذا السؤال الناطق بالشك يعود الى ما قامت به هي وأمثالها، من الحيلولة دون قيام الدولة القوية العادلة، ما يقتضي حدوث ولادة جديدة، وهذا ما تنطق به قصة «ولادة» الرائية الى ولادة جديدة تعيد الجذور الى حضن ترابها، وتكون الإجابة عن السؤال الجذر، في هذه المجموعة القصصية: بلى اَن لهذا الليل الطويل أن ينجلي.
في ضوء ما سبق، هل يمكننا القول: إنَّ هذه المجموعة القصصية حقَّقت الكشفين: القصصيّ والرؤيويّ؟