رحلوا.. لكنهم باقون.
مع كل توديع لهم نتذكر أننا أحياء فقط، يموتون على ضفة ساكتة أو حدّ ملتهب، يموتون امتثالاً لأصوات غريبة نادتهم من عَلٍ..
يبدو أنه لا مفارقة في أن نقف صامتين نودعهم، وفي أن نعِدهم بكثير من الجمل المعسولة عن واجباتنا تجاه من تركوا من أثرهم..
في حصيلة كل تفجير أو قتل أو حدث قدري لهم يجب أن نحصي عدد الجرحى لا الشهداء. الشهداء وحدهم الناجون من عبثيات الحياة والقائمين عليها، بينما الجرحى هم الفقراء الذين سيضاف لهم الكثير والكثير من مهام الحياة لتتحوّل حياتهم بعد ذلك إلى قصة موت بطيء..
في حصيلة كل تفجير أو قتل يجب أن نحصي عدد أيتام الشهداء وأمهاتهم، نعم فالشهداء وحدهم الناجون، بينما ذووهم سيضاف لهم مع الفقد الحزن واللوعة واليتم والثُكل لتتحول حياتهم بعد ذلك إلى مزيد من الألم واللوعة..
كلما مررنا بصور الشهداء في الشوارع نردّد: لترقدوا بسلام وليكن الله بعون من تركتم من ذويكم الذين وعدوهم بالكثير الكثير ولم يحصلوا على القليل القليل..
في حصيلة كل تفجير أو قتل نذرف المزيد من الدموع ليس فقط على مَن رحلوا جسداً بينما على أطفال وعدوهم بالفردوس المنتظر ونحن نشاهد أغلبهم يبيع البسكويت أو علب المحارم على قارعة الطريق..
كلما مررنا بصور الشهداء لم تعد أعيننا سليمة لأننا لم نعد قادرين على معرفة عدد الصور بقينا بأعين سليمة لكن ببصر مكسور..
كلما مررنا على أسماء الشهداء وصورهم نقول: ضيعانكن يا عيوننا وما زالت عيوننا تنزل درجة درجة من سلم الحديد حتى نكاد نصل إلى آخر درجة في رصيد البصر والخوف مجيء يوم لن يكون بإمكاننا البصر والإبصار معاً..
نزاول الالتفات كي نظفر بأحد منهم يظهر لنا ببهجة ما أو يومئ لنا أنه مرتاح البال، لأن ذويه في رغد من عيشهم ولكننا لا نعود كما جئنا وكأننا في متحف بلا زوار أو كأننا نتشبه بجثة طير على رمل ناعم لا يستطيع فعل شيئاً..
من أجل أسر تذرف دموعاً على شهدائها كنهر يغسل الباقي من الأيام، يضعون على الشمع حروفاً بلا يقظة وأعينهم ما زالت تتشظّى وأعيننا ما زالت تفقد قدرتها على التبصر والإبصار..
كلما مررنا بجانب طفل ذهب أبوه للحرب نعي أن من ذهب إلى الحرب لن يعود، فكل من عاد من الحرب لم يعُد لأن الجسد خديعة، وحده الله يعلم حجم الألم القابع في أفئدتهم..
كل من عاد لم يعُد، مات فيه شيء ما
هذه الـ (ما) تشبه الحياة تماماً..
صباح برجس العلي