مكابدات شاعر (ج. 3)
} مصطفى بدوي/ المغرب
1
سيلفيا بلاث على حافة القمر
–عزلة الملكات:
على حافة الليل
كانت تكوّر نظرة في الفراغ
والصغار يتمرّغون في أرجوحة المنام
لم يكن في لون الجدار ولا زفير الصغار ما يوقف أشواقها للجنون
وحدها جثة القمر المتدلّي من عناقيد الهزيع شردت أنغامها، جلجلت هازئة:
The moon has nothing to be sad about
وارتمت في عزلة الملكات..
رقصت على وجع الفحيح رقصتين
فارتخت
واختفت في مهب الشرود..
2
كجندي يصلح ساعته في ساعة متاخّرة من الضجر:
هناك حيث تتكوّم الجهات وتتلكا عقارب الزمن
في قصيدة لا أذكرها لعباس بيضون ربما ألفيت جملة ملفّعة بضجر صباحيّ يتبرم من الموت..
أخذت حبة دوليبران لأهدئ من غليان راسي المفاجئ والتهمت قطعة شوكولاطة إسبانية..
تذكرت لوركا وعادة ما أخمن أن الغيرنيكا مازالت صرخاتها تزمجر في شواهد القبور وصنابير الصمت..
أركل باللاجدوى فكرتي عن الغجر الضالعين في الحنين الى قرطبة.. واكابد الخطو في ما يشبه انسداد النافذة.
اعلّق رأسي على هيكل الخواء كسمكة مبتورة الرأس. أومئ للحشرات أن تلطم بعضها فرحاً برذاذ لن يجيء.
اكسر غصّتي بكاس منمّقة برائحة الصابون ثم ألقي بجثتي على مقعد اسمنتي عبثت به موخّرات العابرين.
استوي كجندي ارهقته الحروب وماتت شهيته في ردّ التحية واقتراف الحنين.. وقد مضى يصلح ساعته ليبيعها لأول عابر في الطريق..
3
برشاقة ماء كنت أدندن عشقاً في خاصرة الريح:
بسلالم من رمل كان الليل يتعثّر بالضوء
والضوء كحوذي أعمى يتشظّى معتمراً حزن اللوحة في الميناء..
ما شأن العابر بمروحة الوقت؟
ماذا تعني تلويحة الشهداء إذا هم ابتسموا في تفسير الأحلام؟
يا عرّاف الصحراء أرشدني لسباسب نجد صرخ المجنون حين ارتطمت قافيته بخرائب من طمي وجذام..
ماذا تعني للرسام ممالكه المتعامدة الأبعاد؟
النار المبثوثة في أرجاء العشب كانت تغزل مئزر أشواقي المتشققة كجدار نخرته الأيام..
يا للصحراء منذ إيوان بنات آوى حتى شهقة ماء..
يا للصحراء حين تهبّ على جسد أبي عثمان فتضيء الغابات..
تتعرّى في مجهول العري مدائن شتّى لا اسم لها..
ورجحون اتّهمته بطانة سوء وما أكلت يوسف غير الصحراء..
4
سيُشبهني أرق الجهات..
متهتكاً كان إرث القصيدة في زوايا البحر وكنت استجدي الغيوم لتمنحني فضة التكوين..
والليل يمضي على سجيّته في الوقوف الطويل..
كان لي أن أمسّد وجنة الحزن بما تيسّر من دبيب الروى وأنفثُ تنهيدة في الرماد..
كان يكفي أن أهدهد خصر الذكريات لأطفئ في أدراجها مزقي..
كان يكفي القصيدة أن أشكلها على هيئة ناي وماء
أرقصها أو أراقصها على إيقاع أوقيانوسها الفضيّ..
وأرثي القراصنة الأوّلين..
كان يكفي.. ما أدّخرته من هشاشتي الصغيرة كي أعود كما أشاء
نحو أسمائي الصغرى
اهاتي الأولى
أنهاري العطشى
وأرخي جديلتها على مطر وناي..!!
5
يا المسافر في أفول اللغة..
ردّني بكمنجات المحو للصرخة الأولى.. للنهر..
يا الرهان السفيه على قلادة الوهم:
وحدها الأحراج تعرف مجهولها وملاذها
يا البلاغة الزائفة: يا محفظة المآسي الغبية واندحار الروح..
يا الصباحات المزنّرة بالتثاوب: زغردي يا (محلا نورها شمس الشموسة)..
يا الشموس المطفات: كوني برداً وشرارة
يا النهايات الموجعة.. يا اليقظة العالية.. يا اشتعال الخسارات في أوصال الريح..
يا النوارس المبحرات في جحيم المدى.. يا غسق المدى في ليالي العذاب..
يا الطفولة الملبّدة بالثاليل.. يا سبورة النزق البعيد
أنا لي أن أعربد في أخاديد اللظى وأخربش في الفراغ..
أنا لي أن أذبح الهذيان وأجثو على جثمان اللغة..!
6
ازمنة متعامدة:
في منتصف الأبجديّة يتعثر المعنى ويلتف الساق بالساق..
في منتصف العمر فكرت الشجرة في فاس الحطاب وما ستذرفه من عطش فوق لحاء الأبواب..
في منتصف المرج تلكا حوذي بحثاً عما يبرّر رحلته العمياء..
في منتصف الحب امرأة تهذي ندماً في المرآة وفيروز تغني: (ع جسر اللوزيّة) فيجهش الزمن..
في منتصف الموت تتفتت الشاهدة ويعتلي الناي الصدا..
في منتصف القبلة تتهدّل أنهار وبروق..
في منتصف الحزن تنشق ينابيع اللوز من أجراف مجاز مجنون..
7
ليس عدلاً أن يعربد فيك الرنين الطفوليّ وتقرع أجراسك المشرَعات على ما يوجل دورة الموت فيك: لوعة أو معادلة محفوفة بالضجر..
ليس عدلاً أن ترمّمك الخسارات يوماً بإزميلها والغوايات بعنابها لتمتطي الجنون المهيّأ للسقوط الأخير..
باب لإندلس الزوايا ونافذة ستفضي عما قليل الى قارة معطّلة الحواس..
باب يحاذي نجمة سحبت مراياها وحطّت مراكبها على شرق الزمان
تيه وأغنية من رماد..
معجم محشوّ بآلهة من عذاب..
وأنت تسكب أنوارك في صهيل السهاد..!
8
وأنا آرق تراءى لي طيفك يا سركون:
(جيوش الهم تسحبني بسلسلة) يا سركون والتلال قصيّة.. ليس ثمة مَن يرشق الأيتام بالورد كي تستقيم على مطالعها الجبال..
ولا مَن يسوّي فاتورة الفقراء في الخبز والشجن الشفيف.. ليس ثمّة يا سركون في القبيلة ما يُغري لتزرورق النافذة او لأرحل في الهسيس..
ليس ثمة غير قيلولة يمخرها هبوب المواجع.. تلك شهوة اللوز في أبعادها الأخرى..
المعاجم ما شيّعتها الرياح ولا شقّها نهر الغواية.. كل أسلافنا انطفاوا صاح الموذن في المقبرة.
الورد تمضغه التفاهة.. صدا الصديد كما الأفق. النهايات مشرّعة على هذيان الغسق..
كانت الكلمات تتثاءب على مصطبة الشطرنج يا سركون.. والقبيلة جاثية تمدح التابوت..
المسافة قارسة بين الخطوة والساقية.. والإعلام ممهورة بالمزق.. المسافة تعلو وتضيع قاب قوسين أو أدنى من الغبار.. التنين فوق سطح الماء والليل يجرف الميناء..
يد الضوء تُمعن في الجلجلة.. وسماء تتنزّه وفق مزاج السابلة.. (وجيوش الهمّ تسحبني بسلسلة)!
9
عندما أدقُّ باب القصيدة لا أفكر في الحداثة أو ما بعدها، كما لا أفكر في ترتيب الجمل بل أكوّرها كما شاءت مصائرها وهي تطالع الأبراج.. ألطمها بالطمي وأفك أزرارها لتبدو في هيئة فلاح قرويّ من المغرب الشرقي يسعى لكسب رزقه على منسوب مياه ملوية.
عندما أكتب لا أفكر في القارئ الضمني ولا في ما تثيره جماليات التلقي في ذهنية الناقد السوفسطائي، بل أفكر في طفولتي وانا اسبح في واحة سيدي يحيى متابطاً نزقي ومعتمراً أحلامي المطفأة ..
عندما أكتب أسفك حبر أوردتي لأسعف غصتي في الرحيل على أجنحة البياض. وأقرع أجراس الندم!