جوزيف الصايغ: الشعر الصعب شغل حياتي
د. طوني مطر
لم أكن أعلم أنه سيكون اللقاء الأخير بيننا في 8/10/2020، حيث التقيته في منزله في زحلة التي، وإنْ غادرها لسنوات طوال، لم يغترب عنها في شعره، حيث قال:
«كلّ يوم لنا رجوع إليها
ولنا الراي خافقات عليها
ما رأينا إلى جمال وهمّنا
غير ذلك الجمال في عينيها
اغتربنا، ولم نفارق كأنّا
اغتربنا عنها ولكن إليها».
هو الشاعر الزحليّ المبدع جوزيف الصايغ، تلميذ سعيد عقل وصديقه، الذي رفض أن يكتب شعراً حديثاً، وبقي على الشعر الموزون. رحل عن دنيانا أواخر العام الماضي عن عمر ناهز الـ91 عاماً في معشوقته باريس وهو الذي لطالما قال: «حياتي ستنتهي في الغربة»، تاركاً وراءه إرثاً شعرياً وأدبياً صاغه خلال عقود من العشق والجنون والغربة: 15 ديواناً شعرياً منها «قصور في الطفولة» عام 1964، «المصابيح ذات مساء» عام 1972، «ثلاثيات» 1984، إضافة إلى عدد من الكتب مثل «المجرّة والحروف» و»وطن المستحيل» (يندرج ضمن أدب المقالة)، و»حوار مع الفكر الغربيّ»، وهو يندرج ضمن الكتب الحوارية مع عشرات المفكرين الغربيين.
وكان أول كتبه «سعيد عقل وأشياء أخرى»، الذي خطّ فيه مسيرة معلّمه الأول وابن مدينته ومثاله الأعلى.
نحت الصايغ الجمال في نتاجه الشعريّ وأُطلق عليه لقب «صائغ العشق»، ومن كتبه: «القصيدة باريس»، «الثلاثيّات»، «يوميَّات بلا أيّام»، «قصور في الطفولة»، «العاشق»، «الأرض الثانية»، «الشعر»، «المصابيح ذات مساء»، لكنّ أبرزها يبقى «كتاب آن – كولين»، وهو قراءة جديدة للكتاب الذي صدر عام 1957 فكان حينها حدثاً أدبياً هاماً، ثم عاد الشاعر المسكون بالعشق والجنون ليحيا مع آن كولين في كتاب فريد أصدره عام 1973 والذي اعتبره النقاد «سفراً في العشق»، حتى سأله أنسي الحاج يوماً: «أأنت ذو قلبين أم أنت مجموعة من الشعراء في عاشق واحد؟».
«ما قلته كثير والذي لم أقله ربما أقلّ، لكنه أيضاً مهمّ جداً ولن أقوله، لأنه قد يكون خطراً في مكان ما أو على إنسان ما»، قال الشاعر جوزيف الصايغ في حديث لـ «البناء» عن نتاجه الشعري، وهو الذي يعتبر أنّ «الكلمة بيت الله.. فهي كلّ شيء… الكون كله كلام، من دون كلام لا كون ولا إنسان، الكلمة العربيّة التي نكتبها، هي ذات تاريخ وحاضر ومستقبل».
أضاف: «الكلام الجوهريّ لا يُقال دائماً ولو أردتُ أن أقول خلاصة ما أفكر فيه بالنسبة إلى لبنان واللبنانيين يردعني عقلي عن ذلك. فمشاعري وأفكاري ورؤياي هي نفسها بالنسبة إلى اللبنانيين سلبية جداً ولا فائدة من ذكرها».
وتابع الصايغ: «قرأتُ حديثاً لأحد المفكرين الأميركيين هذا الرأي… «لبنان بلد تافه ولا يستحق أن تفكر فيه»، وهذا يجرحني جداً ولكن من الجراح ما هو دواء».
وعن سبب انتقاده لسعيد عقل، أجاب: «في الواقع لم أنتقد سعيد عقل الذي أُجِلُّهُ، وإنما أشرت في قصيدتي الأخيرة عنه إلى ضعف يتولّى أحياناً المبدعين».
ورأى أنه «إذا ظلّ الشعر في لبنان يستقطب التراث الشعري فقط، فلن يكون له مستقبل»، موضحاً «أنّ الشعراء العرب اليوم، ما عدا قلّة منهم، تنقصُهم الثقافة الشعريّة العالميّة، وهذا قد يكون مردُّه للأحوال المضطربة، ولكنه في معظمه عائد إلى تضلُّعهم في التراث العربي، وعزوفهم عن التراث العالميّ غير العربي».
منذ أن كان طالباً في جامعة «السوربون» في ستينيات القرن الماضي، سكن جوزيف الصايغ مدينة باريس التي ما لبثت أن سكنته وفتنته بسحرها، ويقول إنها أعطته «فرصة باستثناء اللغة العربية، وأهمّ ما أعطتني القيم التي يسمّونها كونويّة وعلى رأسها الجمال، وهذا يعود إلى الثراء الغنيّ الموجود في معظم العواصم الأوروبية التي استطعت مشاهدتها».
كما يعتبر أنّ شعره «لا يشبه أيّ شعر عربي… أقولها ببساطة ومن دون استكبار، ذلك لأنّ الثقافة الفكرية، الفلسفية خاصة، والعلمية تحديداً تختلف عما هو معتمَد في الشعر. الشعر العربي، باستثناء ما كتبه سعيد عقل، تنقصه الثقافة، وبناءً عليه، فإنّ الشعر الذي شغل حياتي بأكملها هو شعر صعب من حيث البناء والأفكار الفلسفيّة التي تتقمّشه وهو أخيراً يستدعي زهداً وثقافة من طرف القارئ».
وعمّا إذا كان قد أخذ حقّه من التكريم، لفت الصايغ إلى أنه كُرِّم في باريس وبكين ونيويورك وبيروت وغيرها، «ليس بناء على شهرتي بل لأنّ الذين كرّموني اكتشفوني مباشرة. الواقع أنّ هذه التكريمات حصلت بجهود كبار المثقفين وذوي النفوذ الثقافي الذين اكتشفوني. ومن هذه الناحية أصبت حظاً كبيراً لأنّ هؤلاء الكبار من المثقفين قد أحبّوني وقدّروا ما كتبت وبفضلهم عُرِفت في بعض عواصم العالم. وفي لبنان لم يفتني التكريم وتمثالي في حديقة الشعراء في زحلة دليل على ذلك، أيّ أنني عرفت من البعض وقدّروا عملي لكنني لا أستطيع القول إنني معروف. لكي تُعرَف في لبنان يجب أن تنتمي إلى أسرة معينة أو تكون صاحب مال أو منتمٍ إلى دين أو حزب سياسيّ، وأنا لم أنتم إلى أيّ من هذه الكيانات النافذة، أضف إلى ذلك أنني أمضيت 60 عاماً في الغربة وبالتالي لا لوم على من لا يعرفونني».