إشكاليات السياسة الخارجية الأميركية الجديدة (4)
} زياد حافظ*
الجزء الرابع: بعض الملفات في الوطن العربي
ندخل هنا إلى بعض الملفّات المتعلّقة بالوطن العربي والمتشابكة وإنْ كان لكلّ ملفّ على حدة حيثياته الخاصة. لكن التشابك الناتج عن التاريخ والجغرافيا يجعل من الصعب مقاربة الملفّات بشكل مستقلّ عن بعضها البعض. والإدارة الجديدة كسائر الإدارات السابقة تنظر إلى مختلف الساحات من منظور جيواستراتيجي وليس كملفّات مستقلّة عن بعضها وإنْ اقتضى الأمر في بعض الحالات تجزئة الموضوع بسبب الصعوبات التي تواجهها السياسة الأميركية.
ملفات فلسطين وسورية والعراق واليمن وليبيا ولبنان هي ما تعنينا في الدرجة الأولى لأنها ساحات الصراع القائم في المنطقة. السؤال الذي نطرحه هو ماذا تستطيع ان تفعل الولايات المتحدة؟ في هذا السياق لا بدّ من التذكير بأنّ الخط البياني للدور الأميركي هو خط تراجعي. فبعد فشل الانخراط المباشر العسكري في المنطقة عبر تعثّر المشروع الأميركي في العراق وبروز لجنة بيكر هاملتون التي فرضت إعادة النظر في الطريقة في التعامل مع دول الإقليم، كانت حقبة باراك أوباما قد أطلقت نظرية القوّة الذكية أو الحرب بالوكالة. فكان استغلال نقمة الشعوب العربية على حكّامها عبر ما سُمّي بالربيع العربي. الرهان كان أنّ تغيير الطقم الحاكم في الدول الموالية للولايات المتحدة وتمكين مجموعات إسلامية معتدلة متواصلة من تركيا إلى المغرب لتثبيت قاعدة متينة لقرن أميركي في الوطن العربي. لكن الاستعصاء كان في التعامل مع سورية ساهم في تعثر المشروع في مصر فكانت الحرب الكونية التي قادتها الولايات المتحدة على سورية وما زالت حتى الساعة. لكن صمود الجيش العربي السوري والشعب الملتفّ حول قيادته أفشل المشروع الأميركي في سورية.
حقبة ترامب كانت امتداداً لسياسة أوباما مع مطالبته المتكرّرة بسحب القوّات الأميركية التي عارضته الدولة العميقة. تصريحات المبعوث الأميركي السابق المولج بالملف السوري جيمس جيفري تقر بأنه تمّ التحايل على الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإفشال محاولات سحب القوّات الأميركية من شرق وشمال شرق سورية. واليوم يدعو جيفري في مقال له في مجلّة «فورين أفيرز» الرئيس بايدن إلى الاستمرار بسياسة العقوبات والتجويع ضدّ سورية وجعل سورية مستنقعاً لاستنزاف روسيا كما حصل في أفغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي. فالهدف كان وما زال قلب النظام والإطاحة بالرئيس الأسد. أضف إلى ذلك فإنّ قانون قيصر الذي تمّ بموافقة الحزبين الديمقراطي والجمهوري هدفه خنق سورية اقتصادياً ومنع إعادة إعمارها وذلك لتعزيز النقمة الداخلية وفرص انتفاضة على نظام الحكم. لكن كلّ ذلك لم يؤدّ إلى النتائج المرجوة. فماذا بعد؟ فإذا كان الانخراط المباشر قد فشل في تحقيق أهدافه رغم احتلال العراق وقلب النظام وإذا فشلت الحرب الكونية على سورية بالوكالة عن الولايات المتحدة فماذا بقي في الترسانة الأميركية؟ المزيد من القوة والضغط أم مراجعة لتلك السياسة؟ فصمود الشعب السوري الملتفّ حول قيادته وجيشه لم يكن في الحسبان وأفشل كلّ المحاولات. وفي تقديرينا لا نعتقد أنّ الإدارة الجديدة تستطيع أن تحبط من عزيمة الشعب في الصمود ورفض الإملاءات العسكرية. كما سيأتي يوم تترسّخ القناعة عند مختلف النخب الحاكمة في الوطن العربي أنّ ما تريده الإدارة الأميركية أو تقوم به لا يعنيها ولا قيمة لها. المهمّ هو ما تقوم به المجتمعات العربية والتركيز هو على ما تريده دون الاكتراث إلى رأي الآخرين.
بايدن يتراجع أمام سورية كما أوباما؟
آراء المسؤولين المسمّين لتولي السياسة الخارجية توحي أنّ الميل سيكون إلى المزيد من الضغوط على سورية والدفع نحو التقسيم. ذلك سيكون عبر دعم المجموعات المسلّحة وإنْ كانت من جماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش يضاف إليهم مجموعة «قسد». لكن موازين القوّة في الميدان تنفي فعالية تلك السياسة. وليس بمقدور الولايات المتحدة في ظلّ الانقسام الحادّ الداخلي إمكانية تبرير تورّط مباشر تعويضاً عن فشل الحرب بالوكالة. ونشير في هذا السياق إلى مقابلة أجراها وزير الخارجية أنطوني بلينكن مع مايكل موريل المدير العام السابق بالوكالة لوكالة الاستخبارات المركزية (سي أي آي) على برنامج «قضايا استخبارية» (انتليجنس ماترز) الذي تبثّه محطة «سي، بي، أس» الأميركية (ما يؤكّد العلاقة العضوية بين الاستخبارات والإعلام الشركاتي!). جاء في هذه المقابلة التي أجريت في أواخر 2020 والتي لم تخلُ من العبارات التي تؤكّد النظرة التوراتية لدور الولايات المتحدة في الحفاظ على الإمبراطورية لأنّ ذلك قدرها المتجلّي الذي يؤكّد استثنائيتها. وفي تلك المقابلة قال إنّ هناك ضرورة لعدم توريط مباشر للقوات الأميركية في ما سمّاه بـ «الحروب الدائمة» ولكن هذا لا يمنع من «عمليات محدودة» تقوم بها القوّات الخاصة لدعم عملاء محلّيين في تنفيذهم للأجندات المطلوبة. هنا تحضر «قسد» التي ستتلقّى دعماً عسكرياً من الولايات المتحدة. وما يدعم موقف بلينكن تصريح المسؤول الجديد القديم عن الملفّ السوري تري مكغورك الذي خلف جيمس جيفري. فتري مكغورك كان قد استقال سنة 2019 من مهامه في متابعة الملف السوري عندما عبّر ترامب عن رغبته بسحب القوّات الأميركية من سورية. ومكغورك يريد المزيد من التواجد العسكري الأميركي في سورية. وشاهدنا في الأسابيع الماضية عودة خلايا داعش في البادية ومحاولات تخريب المصالحة في جنوب سورية والعمليات الاستفزازية لقوّات «قسد» في الشمال الشرقي لسورية. كلّ ذلك حصل بعد الانتخابات الرئاسية وقبل تسلم بايدن مقاليد السلطة، غير أنّ هذه الإجراءات تحظى بموافقة وزير الخارجية بلينكن وتدلّ على استمرارها.
من جهة أخرى، وفي سياق محاولة تلميع صورة الولايات المتحدة هناك حديث في الأروقة الأميركية عن إمكانية تفاهم ضمني لتسليم روسيا الملف السوري لضمان أمن الكيان الصهيوني. فإذا نجحت المبادة الروسية في تأمين أمن الكيان، يعني عدم دعم استراتيجية وأهداف محور المقاومة، فهذا مكسب للولايات المتحدة والكيان. وإذا تعثرت تلك الجهود فلكلّ حادث حديث ويتمّ التنصّل من التفاهم الضمني. في رأينا، كلّ هذه المحاولات لا تدلّ إلاّ على عجز الولايات المتحدة في المبادرة وتغيير المنحى التراجعي لها في المنطقة. وليس هناك من دليل أنّ روسيا ستقبل بـ «المهمة» كما ليس هناك من مؤشر أنّ الدولة السورية ستتجاوب مع تلك المبادرة. المسألة تصبح من يستطيع أن يتحمّل أكثر الاستنزاف؟ الرهان الأميركي هو أنّ قدرة التحمّل للدولة السورية محدودة وبالتالي ستلجأ إلى تقديم «تنازلات» لإيقاف التدهور الاقتصادي والاجتماعي وهذه «التنازلات» ستأتي بـ «التغيير المنشود» أميركياً وصهيونياً. ولكن في المقابل لا تستطيع الإدارة الجديدة تغيير موازين القوّة على الأرض إذا ما أقدَمت الدولة السورية على استكمال استعادة الأراضي المحتلة في الشمال والشرق. فلسورية حلفاء كانوا وما زالوا ملتزمين في الدفاع عن سورية.
وهناك من يعتقد أنّ أيّ تسوية مع الجمهورية الإسلامية في إيران ستؤدّي حتماً على «انفراجات» في الملّف السوري دون تحديد ما هي الانفراجات. ربما يعتقدون أنها تعود إلى بعض التعديلات في الدستور والتغيير في رأس الهرم، ولكن كلّ ذلك مجرّد تمنّيات لا تستند إلى وقائع مادية يمكّنها من تحقيقها. فسورية ليست أداة للجمهورية الإسلامية بل حليفة لها ولها قرارها المستقلّ. وسورية التي رفضت إملاءات كولين باول في ذروة الغطرسة الأميركية في احتلال العراق لن ترضخ لأميركا التي أصابها الوهن وهي على عتبة الأفول فالانهيار بسبب الانقسام الداخلي وبسبب عدم قدرتها على التوسّع وفرض هيمنتها.
هل تعود نظرية رامسفيلد؟
التوتّر السوري والليبي واليمني والعراقي من صنع إدارة أوباما الذي كان بايدن شريكاً أساسياً فيها. فهل ينتهج الأخير سياسة مغايرة؟ الدلائل حتى الساعة تفيد أنّ نظرية دونالد رامسفيلد هي التي تتحكّم في عقل النخب الأميركية بما فيها الإدارة الجديدة: إذا فشلت القوّة في تحقيق الأهداف فالحلّ هو المزيد من القوّة. المسؤولون المسمّون في الإدارة الجديدة كانوا قد وجّهوا خلال عملهم في إدارة أوباما انتقاداتهم لباراك أوباما لعدم استعمال المزيد من القوّة. والمسؤولون المسمّون هم من الصهاينة وبالتالي أولويتهم الكيان. والرئيس الجديد أعلن عن صهيونيته وإن لم يكن يهودياً بل هو كاثوليكيّ.
لكن موازين القوّة على الأرض حيّدت كافة الوسائل المستعملة لتحقيق أهداف الإدارة الأميركية. فما هو «المزيد من القوّة»؟ ليس بمقدور الإدارة رغم إعلان التزامها بالكيان الصهيوني أن تفرض على الكونغرس الأميركي خيارات حرب جديدة في سورية لصالح الكيان لأنّ المزاج العام في الأجواء المضطربة في الداخل الأميركي لا يسمح لمغامرات خارجية غير مضمونة النتائج خاصة أنّ سورية لم تعد بمفردها بل هي جزء من محور قوي يستطيع إيقاع الخسائر الفادحة بالمصالح الأميركية والصهيونية في المنطقة. كما أنّ تحالفات سورية الدولية تمكنها من تحييد العمل الانفرادي الذي قد تقدم عليه الولايات المتحدة. فتجربة 2013 تشير إلى أنّ آنذاك لم تكن موازين القوّة لصالح الولايات المتحدة في شنّ عدوان مباشر على سورية فكانت الوساطة الروسية وحلّ تفكيك المنظومة الكيمياوية. اليوم، موازين القوّة أكثر ميلاً لصالح سورية مما كانت عليها سنة 2013 فما يبقى للولايات المتحدة إما التراجع وإما تخفيض سقف المواجهة والاكتفاء بربط نزاع. ما يهمّ الدولة السورية هو خروج القوّات الأميركية من شرق الفرات وهذا ممكن لأنّ العدد قليل واللوجستية الداعمة لها صعبة خاصة إذا ما تمّ إخراجها كلّياً من العراق.
في ما يتعلّق بالعراق، لا يجب أن ننسى أنّ بايدن منذ ولاية بوش الابن ينظّر لتقسيم العراق. هنا أيضاً موازين القوّة تحكم سياسات الإدارة حيث أصبحت الإمكانيات محدودة. والقوى السياسية العراقية المؤيّدة للوجود الأميركي لم يعد باستطاعتها الدعوة إلى ذلك بعد اغتيال أبي مهدي المهندس ومعه قاسم سليماني. والتفجيرات في وسط بغداد في أوّل يوم من ولاية بايدن لن يؤدّي إلى إبقاء القوّات الأميركية بحجة عودة داعش التي ادّعت الولايات المتحدة أنها «هزمتها»! بل العكس قد يحصل. فالتفاهم مع الحكومة العراقية قد يساهم في تسهيل الخروج الميسّر للقوات الأميركية من العراق لأنّ البديل عن ذلك هو تكرار مشهد خروج القوّات من فيتنام. ستحافظ الإدارة الأميركية على علاقات وثيقة مع إقليم كردستان غير أنّ كلّ ذلك لن يمنع تكريس الانكفاء من العراق وسورية. لكن هذا لا يعني أنّ الساحة العراقية ستنعم بالهدوء بل العكس كما تبيّن من الانفجارات الأخيرة. المسألة ستكون في ضبط الإيقاع بين التوتر والتفاوض والكرة في ملعب القيادات العراقية.
المسرح مهيّأ لوقف حرب اليمن
في ما يتعلّق باليمن فالمسرح مهيّأ في الكونغرس الأميركي لإيقاف الحرب وإعطاء الدور للأمم المتحدة بعد الإيعاز لبلاد الحرمين بوقف العدوان. وبات واضحاً أنّ إدارة بايدن ستنظر في موضوع تصنيف الحوثيين كمجموعة إرهابية وإلغاء التصنيف الذي فرضته إدارة ترامب في أيامها الأخيرة. لكن هناك قوى داخل التحالف الحاكم في الولايات المتحدة ستسعى للحفاظ على التوتر في اليمن. شركة التسليح الأميركية رايثيون تورّد أسلحة لبلاد الحرمين ودول الخليج ووزير الدفاع الجديد لويد اوستن عضو مجلس إدارة الشركة. ليس من الواضح من يستطيع حسم الموقف الأميركي، وما نريد أنّ نشير إليه هو تناقض المصالح داخل تحالف القوى الداعمة لبايدن كما أوضحناه في الجزء الأول من هذه السلسلة.
أما العلاقة مع بلاد الحرمين فالمزاج السائد في الإدارة الجديدة سلبي حتى الساعة تجاه ولي العهد وأسلوب الحكم. التصريحات المتكرّرة للرئيس الأميركي الجديد حول ضرورة مساءلة المسؤولين في بلاد الحرمين حول اغتيال جمال الخاشقجي دليل على ذلك. انها مؤشر عن طبيعة العلاقات المرتقبة بين الإدارة الجديدة وقيادة بلاد الحرمين. في المقابل ستتمسّك الإدارة بـ «الاتفاقات الابراهيمية» وربما قد تطوّرها بعد إنجاز «تغييرات» في حكومة بلاد الحرمين. لكن ولي العهد ليس بالضعف الذي يتصوّره البعض وأنّ خيارات الإدارة الأميركية محدودة هنا أيضاً. لكن في مطلق الأحوال، لن تكون العلاقة بين العاصمتين علاقة هادئة على الأقلّ في المرحلة الأولى من ولاية بايدن.
معظم فريق السياسة الخارجية من الصهاينة
بالنسبة للملف الفلسطيني أعلن الرئيس المنتخب التزامه بحلّ الدولتين لكنه لم يفصح عما هو مصير المستعمرات في فلسطين ولا مصير العاصمة. سيتمسّك بقرار نقل السفارة (لا ننسى أنّ القرار اتخذ من قبل الكونغرس في ولاية كلينتون) وسيعود التواصل مع السلطة وتسهيل الحوالات المالية للسلطة. في المقابل التزام الإدارة الجديدة بأمن الكيان من ثوابت النخب الحاكمة في أميركا ولكن لن ينجر هذا الالتزام إلى التمسّك بنتنياهو الذي نعتقد أنه على طريق الخروج من المسرح السياسي. فكلّ هذه الإجراءات طابعها شكلي لأنه لا تستطيع الإدارة الجديدة تقديم أيّ شيء جذري علماً أنّ الضغوط تتصاعد داخل الحزب الديمقراطي للإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني. لكن لا يجب أن ننسى أنّ معظم فريق السياسة الخارجية للإدارة الجديدة من الصهاينة الذين لن يسمحوا بأيّ «تنازل» جوهري تجاه الفلسطينيين. فليس هناك ما يبرّر المراهنة على مواقف جديدة في الإدارة ليعطي دفعاً ما لسياسة المفاوضات التي أثبتت عقمها.
بالنسبة لليبيا فإنّ الكارثة التي حلّت بها من صنع إدارة أوباما وخاصة من صنع هيلاري كلنتون. المسؤولون الجدد في الإدارة للشؤون الخارجية كانوا في إدارة أوباما وما زالوا يدافعون عن سياساتهم آنذاك. ليس من الواضح ما يمكن أن تقدم عليه الإدارة فليس أيّ تصريح أو كتابة لأيّ منهم حول الملف الليبي المعقد دولياً وعربياً وإقليمياً. لكن لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ المندوبة المسمّاة لتمثيل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ليندا تواماس غرينفيلد ديبلوماسية عريقة منحدرة من أصول أفريقية. وكانت قد أقصيت من وزارة الخارجية في ولاية ترامب. قبل ذلك شغلت مناصب عدة في أفريقيا كنيجيريا وليبيريا. صرّحت منذ فترة وفقاً لموقع «سبوتنيك» أنّ على كافة الأطراف المتنازعة محلّياً ودولياً تخفيض سقوف المطالب والعمل على إيجاد حلّ. ليس من الواضح إذا ما كان ذلك التصريح رأياً شخصياً أم انعكاساً لتغيير ما في الإدارة الأميركية.
أيّ دور لروبرت مالي؟
الملف الأخير هو الملف اللبناني. حتى إعداد هذه المقاربة لم يصدر أيّ موقف عن أيّ مسؤول في الإدارة الجديدة حول لبنان. وبالتالي ما يمكن عرضه مبني على مواقف سابقة للإدارة الديمقراطية وإفادة جيفري فيلتمان منذ أكثر من عام أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس. ويمكن أن تتبنّى الإدارة الجديدة مقاربة فيلتمان الذي يعرف لبنان جيّداً. كما علينا الأخذ بعين الاعتبار أنّ الولايات المتحدة تنظر إلى الملف اللبناني من زاوية أمن الكيان ومن زاوية الترابط بالملفات المتعدّدة في الإقليم. خلاصة مقاربة جيفري فيلتمان هي أنّ دفع لبنان إلى الهاوية لن يأتي بمردود إيجابي لمصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وبالتالي يجب إعادة النظر في الضغوط التي تمارس على لبنان والتساكن كما كان في عهد أوباما مع المقاومة حيث لا توجد أيّ قوّة إقليمية حليفة تستطيع نزع سلاح المقاومة وفقاً لقرار مجلس الأمن 1702. التساكن قد يرفع الفيتو على مشاركة الحزب بشكل أو بآخر في الحكومة. كما يمكن أن يساهم في دعم المبادرة الفرنسية لإعادة ترتيب الوضع الداخلي من الناحية المالية. لكن ليس هناك من أيّ دلائل أنّ المسؤولين الجدد في الإدارة يشاطرون ذلك الرأي.
من جهة أخرى تكاثر الكلام في الأروقة الأميركية عن دور كبير لروبرت مالي في مقاربة الملف الإيراني والفلسطيني واللبناني. وروبرت مالي مقرّب جدّاً من انطوني بلينكن. إذا ثبت أنّ الكلام الجاري في الأروقة جدّي فهذا يعني أنّ الدبلوماسية ستلعب دوراً كبيراً في مقاربة الملفات الساخنة في المنطقة قد تنعكس بحلحلة ولو محدودة تجاه المشهد اللبناني خاصة أنّ أدوات الولايات المتحدة أثبتت فشلها الذريع تكراراً، وأن لا جدوى من تصعيد الموقف الذي قد يطيح بما تبقّى من نفوذ للدور الأميركي.
على كلّ حال، خلال المئة اليوم الأولى من ولاية بايدن سيتبّن بشكل أوضح التوجهات الحقيقية للإدارة الجديدة. ونعتقد أنها لن تكون بعيدة عن المقاربة التي عرضناها أعلاه.
هذه بعض التوقّعات في الملفات الساخنة التي تنتظر الإدارة والتي لا نتوقع أيّ تعديل عن السياسات السابقة سواء فقط في الأسلوب واللهجة. فهي غير قادرة على التغيير وغير قادرة على الاستمرار. هذا هو مأزقها وليس مسؤولة دول العالم حلّ المأزق الأميركي. التحوّلات في الميدان ستفرز الوقائع التي ستحكم السياسة الأميركية التي تصبح يوماً بعض يوم غير ذي جدوى. فلا قدرة لها على شنّ حروب جديدة وإنْ كانت رغبتها في ذلك مؤكّدة ولا قدرة لها على تقديم تنازلات لعقد تسويات. فانفراط الإمبراطورية الأميركية قد تتلازم مع انحلال الجمهورية. في أحسن الأحوال ما ستقوم به الإدارة الجديدة هو ربط نزاع دون حلول ودون حروب. في أسوأ الأحوال بالنسبة لها مسألة وجودها ككيان لدولة عظمى. الخطورة تكمن فقط في استمرار حالة الإنكار وارتكاب بالتالي حماقات تسرّع في زوالها وما سيرافق ذلك من خسائر في الأرواح.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي