قراءة في مواقف الثورة الإسلامية في إيران في ذكراها السنوية
الباحث ميامن حميد
كانت الثورة منذ انطلاقتها علی عداء مع المشروع الأميركي في الهیمنة على مقدرات الدول الإسلامیة.
في ذلك الخطاب لم تكن فلسطین غائبة عن عقلیة قائد الثورة ومفجّرها فكان جزء كبیر من الهجوم یركز علی العلاقات الآثمة بین نظام الشاه والكیان الغاصب لفلسطین… وعلی هذا كان الإجراء الأول الذی قامت به الثورة وفي یوم انتصارها (11 شباط/ فبرایر 1979) هو تحویل سفارة العدو الصهیوني فی قلب طهران الی سفارة لدولة فلسطین التي لم يكن الراحل یاسر عرفات قد أعلنها بعد!
المبدأ الآخر الذي ألزمت الثورة نفسها به، هو أنها رفعت شعار ثورة المستضعفین في مواجهة المستكبرین… المستضعفین علی اختلاف انتماءاتهم الدینیة والعقیدیة والفكریة والسیاسیة، وفي أي بقعة من العالم.
صحیح أنها كانت ثورة إسلامیة، وانّ قادتها ینتمون مذهبیاً الی طائفة من المسلمین. لكن مبادئ الثورة وشعاراتها لم تكن طائفیة أو قومیة أو مناطقیة بل لكلّ الإنسانیة التي ترید الخلاص من نیر الهیمنة الاستكباریة بشتی أشكالها.
ومن هذا المنطلق دعت الثورة الإسلامیة جمیع حركات التحرر في العالم، في أميركا الجنوبیة وفي إیرلندا وفي العالم الإسلامي بطبیعة الحال مع أولویة بعض القضایا كفلسطین باعتبارها تشكل قلب الصراع من الاستكبار الذي وضع كلّ إمكانیاته وقدراته في خدمة المحتلین الصهاینة.
انّ نظریة حزب المستضعفین فی مواجهة حزب المستكبرین هي نظریة مستمدة من التقسیم القرآني للمجتمع البشري والی التمایز بین قوی الخیر التحرریة وقوی الشر السلطویة والمتفرعنة.
فكانت الثورة بهذا الشعار تمثل الامتداد الطبیعي لمسیرة بدأت بالانبیاء والمصلحین والثوار علی مدی التاریخ الانسانی… وفي هذا السیاق لم تنظر الثورة الی مصالحها الذاتیة والانهزامیة التي تسیطر علی كثیر من الحركات السیاسیة تحت عناوین الواقعیة السیاسیة، بل دفعت منذ الیوم الأول ثمن هذه المواجهة وهذا الدعم… فلا عجب ان تجد في طهران شوارع تحمل أسماء ثوار، مثل باتریس لولومبا وبوبي ساندز، الی جانب أحمد قصیر وخالد الاسلامبولي ومحمد باقر الصدر والحكیم.
وهكذا بالنسبة للتعامل مع أهمّ قضیة یواجهها العالم الإسلامي، والتي سمّاها البعض زوراً بالقضیة المركزیة أو القضیة الأولی، دون ان یتقدّموا خطوة فی سبیل إنقاذ الأقصی ودعم مقاومة الشعب الفلسطیني الرابط في مواجهة الاحتلال.
تصوّروا لو أنّ حكومة الجمهوریة الاسلامیة تخلت عن دعم القضیة الفلسطینیة ودعمت مسیرة التسویة مع الكیان الصهیوني وتركت الفلسطینیین مشرّدین فی شتات الارض… هل كان الكيان الصهيوني وأميركا يعادیان النظام الإسلامي ويصرفان مئات الملایین من الدولارات من أجل محاصرته والتضییق علیه؟!
هل كان المشروع النووي السلمي الإیراني یُحدث كلّ هذه الضجة في العالم لیهدّد في كلّ صباح الرئیس الأميركي بإلغائه؟ وأساساً هل كانت هناك حاجة لأربع سنوات من التفاوض مع السداسیة الدولیة؟
أبداً… كانوا تعاملوا معها علی الأقل مثلما تعاملوا مع المشروع النووي الباكستاني ومع المشروع النووي الهندي والمشاریع التي یموّلونها بأنفسهم في باقي البلدان التابعة لهم.
لقد دفعت الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ثمناً باهضاً جراء تبنّیها لقضیة فلسطین والأقصی الشریف من منطلق إیمانها الاسلامي وثوابتها المبدئیة بضرورة تحریر الأرض المحتلة ومواجهة المشروع الصهیوأميركي في المنطقة… ولولا هذا الدعم وهذه المواقف المبدیئة لضاع الجنوب اللبناني وضاعت غزة كما ضاعت الضفة الغربیة وأراضي الـ 48 التي نسیَها العرب والمسلمون… ولاستباح الصهاینة غزة المحاصرة منذ زمن بعید.
لقد كان الشاه المقبور حلیفاً للأميركان والصهاینة فكانت إیران حینها الركیزة الأساسیة للسیاسة الأميركیة في المنطقة، بل تمّ تسلیم أمن منطقة الخلیج الفارسي له بالكامل وأخضعت جمیع محمیات أميركا والغرب في المنطقة إلیه… یحجّون إلیه في كلّ یوم ولیلة لتقدیم فروض الطاعة هؤلاء أنفسهم الذي یصرّحون في الیوم عشرات المرات بالعداء للجمهوریة الإسلامیة، التي أصبحت بمواجهتها لأميركا والصهاینة، مجوسیة ورافضیة تتدخل في شؤونهم الداخلیة.
الموقف الذي اتخذته الثورة من قضیة فلسطین لم یكن لأهداف سیاسیة ومصالح استراتیجیة تتعلق بإیران بل هو موقف مبدئي دفعت له الثورة الكثیر من أموال شعبها ودماء أبنائها ولا منّة فی ذلك علی أحد.. بل جعلت من فلسطین بوصلة للتعامل مع الأنظمة والدول والكیانات السیاسیة.
هناك نهجان عامان في العالم الإسلامی، نهج طائفي ارتبط منذ العصور الأولی بالاستبداد السلطوي والسلطان الجائر، والیوم هو الركیزة الأساسیة للمشروع الصهیوأميركی فی المنطقة، معروفة شخوصه ورموزه وشعاراته وتبنیاته، كلف الأمة الكثیر من طاقاتها وإمكانیاتها ودماء أبنائها… هذه الطاقات والإمكانیات والدماء التي لو كانت تسخّر من أجل المجتمع الإسلامي ووفق مباني الإسلام المحمدي الأصیل، لتحرّرت جمیع الأرض الإسلامیة من استعمار الشرق والغرب ولاحتلّ العالم الإسلامي موقفاً متقدّماً في ركب الحضارة الإنسانیة الیوم، لا أن تصبح أمة الأكثر جهلاً وتخلفاً واقتتالاً بین الامم!
والنهج الاخر، هو نهج الوحدة والتقریب والبحث عن المشتركات مع الآخر، وفق منطق قرآني یقول «تعالوا الی كلمة سواء» وحدیث نبوي «إنما المؤمنون إخوة» وحكمة علویة شهیرة إما أخ لك في الدین او نظیر لك في الخلق… هذا النهج الأخیر تعتبر الثورة الإسلامیة والجمهوریة الاسلامیة فی إیران امتداده، ومعها بالطبع كلّ دعاة الوحدة فی البلدان الأخری من علماء الأزهر والشام والزیتونة وغیرها من حواضر الإسلام.
وما أحبّ أن انوّه به أنّ جمیع ما لاقته الثورة من تحدیات وتهدیدات بسبب مواقفها المبدئیة، علی الصعیدین الداخلی والخارجي لم یزدها إلا ثباتاً في مواصلة هذا النهج المحمدي العلوي الأصیل… النهج الذي أثمر في الداخل تطوّراً نوویاً وتقنیاً وطبیاً وإعماراً وتنمیة، وفی الخارج إثبات حقانیة مواقفها وصدق شعاراتها التي رفعتها حتی قبل انتصار ثورتها فی 11 فبرایر/ شباط 1979 لأنها باختصار ثورة قیم ومبادئ وعقیدة، ولم تكن مجرد تغییر سیاسي لرأس وقمة هرم السلطة… انها حلم الأنبیاء كما عبّر عنها الشهید السید محمد باقر الصدر. والرصاصة التي انطلقت من عصر الرسالة حسب تعبیر الراحل محمد حسنین هیكل… هي بعبارة واحدة ثورة الخمینی الرجل الذي هزّ العالم ومرّغ أنف أميركا في وحل الهزیمة وجعل عمیلها فی إیران یهرب دامع العینیین!