مستنقع فرنسا في مالي… الحرب الخاسرة
د علي سيّد
مالي أو جمهورية مالي، هي دولة غير ساحلية في غرب أفريقيا. تحدّها الجزائر شمالاً والنيجر شرقاً وبوركينا فاسو وساحل العاج في الجنوب وغينيا من الغرب والجنوب، والسنغال وموريتانيا في الغرب. تزيد مساحتها عن 1,240,000 كم² ويبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة، عاصمتها باماكو. تتكوّن مالي من ثماني مناطق وحدودها الشمالية تصل إلى عمق الصحراء الكبرى، أما المنطقة الجنوبية من البلاد حيث تعيش فيها أغلبية السكان فيمرّ بها نهري النيجر والسنغال. ويتمحور التركيز الاقتصادي في البلاد حول الزراعة وصيد الأسماك. ويوجد في مالي بعض الموارد الطبيعية مثل الذهب واليورانيوم والملح.
«لقد غدر بكم عدوّ أعمى بلا عيون خائف من مواجهة نظراتكم، لقد سقطم من أجل فرنسا وسنحارب من أجلها حتى الرمق الأخير»، هذا ما قالته وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي في تأبين ثلاثة جنود فرنسيين سقطوا في مالي منذ أيام ليصل عدد الجنود الذين قتلوا هناك إلى 50 جندياً على مدار ثماني سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في مالي.
تدخل ادّعت فرنسا أنّ هدفه محاربة الإرهاب واستعادت الاستقرار، لكن بعد كلّ هذه الأعوام أعلنت باريس استعدادها للتفاوض مع الجماعات المسلحة في مالي.
أهداف فرنسا من التدخل في مالي
نشرت فرنسا آلاف الجنود سنة 2013، عندما تدخلت لمساعدة الحكومة المالية على استعادة مساحات شاسعة من أراضيها الشمالية من بينها مدن تمبكتو وغاو التي استولى عليها الإسلاميون المتشددون.
وزاد انتشار الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل، وهي منطقة أفريقية تمتدّ من ساحل المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر وتشمل ما لا يقلّ عن 14 دولة، بما في ذلك أجزاء من مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى…
إذا عدنا إلى سنة 2013 سنجد أنّ هناك سببين أساسيين اعتمدت عليهما فرنسا للتواجد في شمال مالي ونشر قواتها هناك، والسببان هما:
محاربة الإرهاب والحيلولة دون ما يسمّى بمفعول الدومينو أيّ عدم انهيار الدولة المالية وانتقال عدم الاستقرار إلى دول الجوار خاصة النيجر وبوركينافاسو حيث مصالح فرنسا أيضاً.
كما تعود أسباب التواجد العسكري الفرنسي في أقطار الساحل الأفريقي لدوافع تاريخية أيضاً، فالاهتمام الفرنسي بهذه المنطقة يعود إلى الحقبة الاستعمارية، فقد احتلت فرنسا السنغال وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر.
عندما نقيّم الوضع الحالي بالنظر إلى الأهداف التي أعلنت عشية التدخل العسكري سنة 2013 نجد أنّ هناك تدهوراً أكثر للوضع الأمني وحالة من عدم الاستقرار السياسي تتفاقم مع الوقت في مالي بدليل أنّ الرفض الشعبي للتواجد الفرنسي بدأ يظهر من خلال التظاهرات التي حصلت العام الماضي وكذلك حصول انقلاب على سلطة حليف فرنسا الرئيس «إبراهيم بو بكر كيتا» في آب الماضي وهي مؤشرات على اللا إستقرار في مالي وتفاقم الوضع أكثر وكأننا عدنا إلى نقطة البداية.
محاربة الإرهاب قناع المصالح
لفرنسا استثمارات في مالي التي تحتوي على ثروات باطنية هامة فهي على سبيل المثال تعدّ ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، كما يُعتقد أنها تملك ثروة ضخمة من النفط والغاز غير مستغلة في شمال البلاد وفرنسا من الأطراف التي تملك حقوق التنقيب في تلك المناطق.
بجانب أنّ وقوع مالي ضمن دول الساحل التي تعدّ ممراً لنقل البترول والغاز يجعلها فضاء للصراع الدولي، ومن هنا يكتسي تدخل فرنسا في المنطقة بعداً استراتيجياً متعلقاً بمواجهة القوى الجديدة النشطة في أفريقيا كالصين والهند وتركيا.
ويرتبط التدخل الفرنسي بالمخاوف الأوروبية من أن ينتج عدم الاستقرار السياسي موجات المهاجرين غير الشرعيين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، ووفق مراقبين فإنّ هذا يوضح تناقضات السياسة الفرنسية حيال أفريقيا، إذ بينما تدعو باريس إلى الحدّ من هذه الظاهرة فإنها تدعم في الآن نفسه الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي تخلق البيئة الطاردة لأبناء البلاد. ومن الجدير بالذكر أنّ الرئيس السابق لمالي «أبو بكر إبراهيم كيتا» كان من أوثق حلفاء فرنسا، واتسم عهده بالفشل السياسي والأمني والفساد الاقتصادي، ما أخرج الماليين في مظاهرات مطالبة باستقالته وبإصلاحات سياسية في البلاد، وهو ما أدى إلى انقلاب عسكري أواخر آب ودخول البلاد في مرحلة جديدة لم تتبيّن كلّ ملامحها بعد.
المواجهة العرقية
انّ حجم قوات الجماعات الإسلامية المسلحة في أزواد (شمال مالي) وطبيعة تسليحها يزيد من تعقيد الأمور، فضلاً عن توغلها في المجتمع الأزوادي، إذ من المعلوم أن جماعة أنصار الدين (المعارضة المسلحة للتدخل الفرنسي) تتألف أساساً من الطوارق، وجماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا تتألف في غالبها الأعمّ من القبائل العربية في منطقة غاوا وشرق أزواد، وجماعة أنصار الشريعة تتألف من قبائل عرب تمبكتو والمناطق الأزوادية الغربية، بينما يسيطر الجزائريون والموريتانيون على تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، مع حضور قوي للمسلحين الأزواديين في التنظيم.
كما أنّ هذه الحركات قد تستغلّ معاناة سكان أزواد، خصوصاً من الطوارق والعرب، من الظلم والتهميش طيلة العقود الماضية، فضلاً عن خوفهم من أن تأخذ الحرب القادمة صبغة عنصرية وعرقية بطبيعة القوات المشاركة فيها من غرب أفريقيا، وتجهيز فرنسا ودعمها لمليشيات ذات طابع عرقي من قومية السونغاي (مليشيات «الكوندوإيزو» تتلقى حالياً التدريب والتسليح في معسكرات وسط مالي) للمشاركة في الحرب.
ويخشى العارفون بالمنطقة أن تكرّر هذه المليشيات تجربتها في التسعينيات، عندما سلحها الجيش المالي وأطلقها على الطوارق والعرب، فارتكبت عمليات إبادة واغتصاب وحرقت القرى واجتاحت المدن، وهو ما يرجح فرضية دفع حركتين غير إسلاميتين تنشطان في المنطقة إلى المشاركة في الحرب إذا دخلت القوات المالية إلى أزواد، وهما الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة العربية الأزوادية، وكلاهما تعادي الجماعات السلفية، لكنهما تتفقان معها في رفض عودة الجيش المالي إلى أزواد.
الصراع الأفريقي بين فرنسا والولايات المتحدة
ما يزيد الطين بلّة، وفق الأخبار التي رشحت عن الانقلاب العسكري في مالي الذي حدث في آب السنة الماضية، أنّ قائده قام بالعملية لصالح المصالح الاستخباراتية الأميركية، بما يعني أنّ المنطقة على أعتاب اللُّعبة السياسية – العسكرية نفسها التي نشهدها في ليبيا، ما يؤكّد مرّة أخرى، الارتباط الوثيق بين ما يحدث في ليبيا والأضرار المُتوقّعة على تمدّد عدم الإستقرار في السّاحل، وذلك كله على خلفية خلافٍ في التصرّف بشؤون المنطقة بين الولايات المتحدة وفرنسا، ومن دون الإكتراث بتداعيات ذلك كلّه، على المنطقة برمّتها وكأنّنا أمام خريطة للفوضى تمتدّ من شرق المتوسّط (خلافات تركيا مع اليونان) إلى أعماق منطقة الساحل (انقلاب مالي، وتمدّد عدم الإستقرار إلى المثلث المذكور بين مالي/ النيجر/ بوركينافاسو) مرورا بشمال القارّة (ليبيا)، وهي خريطة تحمل في طياتها نذر عدم استقرار مزمن، وقد تكون العمق الحقيقي لقوس الأزمات المعـروفة، والذي شكّل أساس العقيدة الإستراتيجية الأميركية، والممتد جيوسياسياً من باكستان إلى حدود المغرب، أو ما يُعرف بالشرق الأوسط الكبير بالإدراك الأميركـي، وبتصوّر مضمون الفوضى فيه.
يمكن الحديث عن خسائر فرنسا التي تزداد وضوحاً مع انقلاب مالي، وهي على أكثر من مستوى، لعلّ أبرزها فشل فرنسا في القيام بمهام الدفاع عن الساحل، ما يفتح الباب واسعاً، أمام «أفريكوم»، الذّراع العسكرية الأميركية في القارّة الأفريقية، للتدخل وتعويض الفشل الفرنسي. كما يدلّل، من ناحية أخرى، على عدم قدرة أوروبا على بناء قدرات أمنية – دفاعية ذاتية أو الإعلان الرسمي عن فشل السياسة الأمنية الدفاعية الأوروبية بقيادة فرنسية في أوروبا، وفي الفضاء الجيوسياسي الذي تدرك القارة العجوز أنه عمقها الاستراتيجي.
وقد تتمثل الخسارة الأخرى، المرتبطة بفشل فرنسا دفاعياً وأمنياً، في فتح الباب أمام فكّ ارتباط منطقة السّاحل في الميدان الأمني ثم في الميادين الأخرى، وخصوصاً الاقتصادية مع فرنسا، وتوسيع خيارات دول المنطقة في البحث عن استراتيجيات بديلةٍ عن خيارات فرنسا الفاشلة.
فرنسا ومستنقع مالي
بعد ثماني سنوات من التدخل العسكري الذي أطلقه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، لوقف مصفوفة إرهابية تهدّد باماكو، تبدو الإجابة على سؤال ماذا تفعل فرنسا في مالي أقلّ وضوحاً. إنّ الوعد بإعادة الإعمار، بفضل حماية الجنود الفرنسيين، لدولة مالي كي تتمكن من كبح جماح التهديد الإرهابي والاستجابة لاحتياجات السكان الأمنية والعدالة، تحطمت مع فشل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، الذي عوقب لعدم أهليته، في آب 2020، بانقلاب عسكري.
أخيراً فإنّ عمليات «سيرفال» الفرنسية ثم «برخان» التي شارك فيها 5100 جندي، أدّت بالتأكيد إلى تعطيل العديد من القادة الإرهابيين، كما جعلت من الممكن تجنب كثير من عمليات التسلل بين الساحل والمستنقع الليبي، لكنها لم تمنع زيادة العنف بين المدنيين، ولا الاختراقات الإرهابية وسط مالي، ولا انتقال العدوى إلى النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين. إنّ بقاء القوات الفرنسية لحماية الأنظمة، رغم أنّ هذا الوجود لم يحقق أهدافه في إبعاد شبح الإرهاب إلا أنه بات ضرورة أيضاً للأنظمة الضعيفة في منطقة الساحل، حيث إنّ انسحاب القوات الدولية يعني بالضرورة انهيار تلك الأنظمة تحت لهب العصابات المسلحة.
كذلك فإنّ تضارب التقييمات بخصوص نتائج التدخل العسكري الفرنسي وهل كان ضرورياً لكبح المخاطر الأمنية (بغض النظر عن النتائج) أو الحفاظ على المصالح الفرنسية الاستراتيجية والاقتصادية. فإن عدم وجود تهديد إرهابي مباشر انطلاقاً من الساحل واستمرار الخسائر بين الجنود الفرنسيين، يدفعان للتفكير في إيجاد مخرج، وهو ما يجعل الانسحاب التدريجي والمدروس يبدو الخيار الأنسب، لكنه يتطلب شجاعة سياسية وبناء علاقة سليمة بين فرنسا وأفريقي.
*باحث في الشؤون الأفريقية