استراتيجية أميركيّة تائهة المعالم.. وعودٌ على بدء!
سماهر الخطيب
أفادت «الغارديان» بأنه من المقرّر أن ينشئ الرئيس الأميركي جو بايدن فريق عمل لجمع شمل العائلات التي تم تفريقها على الحدود مع المكسيك من قبل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
وقالت وثيقة إحاطة إن «خطط الهجرة الخاصة ببايدن تتمحور حول الفرضية الأساسية التي مفادها أن بلدنا أكثر أماناً وأقوى وازدهاراً مع وجود نظام هجرة عادل وآمن ومنظم يرحب بالمهاجرين ويبقي العائلات معاً ويسمح للمهاجرين الوافدين حديثاً وللأشخاص الذين يعيشون هنا منذ أجيال، للمساهمة بشكل كامل في بناء بلدنا».
وكان قد تعهّد بايدن، بعودة بلاده لتأدية دورها القيادي العالمي، وإصلاح علاقتها مع حلفائها حول العالم؛ إنما تشديد بايدن في خطابه الأول خلال مراسم تنصيبه الذي شدّد خلاله على مواجهة الأخطار الداخلية وما سمّاه حينها بـ»الإرهاب الداخلي»، من دون الإشارة للقضايا الدولية الشائكة ألقى بالشكوك على أولوية وأهمية القضايا الخارجية في أجندته المثقلة بالأزمات والانقسامات الداخلية..
وهنا تكمن أهمية قرار بايدن بإعادة لم شمل العائلات التي تم تفريقها على الحدود مع المكسيك سعياً منه لتهدئة الداخل الأميركي ومحاولة امتصاص الغضب الداخلي الذي ولدته سياسة ترامب الحمائية، وبالتالي خطوة بايدن هذه وما يليها من خطوات مشابهة تأتي تأكيداً لخطابه الأول في أنه يسعى لإعادة توحيد البلاد وليس بث التفرقة..
فيما هناك عنصر بارز يشكل مجالاً واسعاً لتشكيل استراتيجية السياسة الخارجية لواشنطن في عهد بايدن وهذا العنصر يظهر في قرب وزير الخارجية المعيّن، أنتوني بلينكن، الشديد من بايدن، الأمر الذي يترك له مجالاً واسعاً لتأدية هذا الدور، فـ «بلينكن» هو من المؤيدين للتعاون متعدد الأطراف في إطار المنظمات الدولية، وتعزيز الديمقراطية في العالم، كما أن انتقاده للانعزالية وأحادية إدارة ترامب يضفي على مهامه «إيجابية ضئيلة» في التعاطي بالشؤون الخارجية.
وفي رأي بلينكن، فمن «المستحَسن إحياء الثقة بالولايات المتحدة في العالم كشريك موثوق به»، عبر إيلاء المزيد من الاهتمام بالمشاكل العالميّة، ومحاولة حل الأزمات، بعد أن باتت روسيا رائدة بهذه السياسة وما ترسّخ خلال سنوات من نجاح إدارة روسيا للأزمات يبرز في الرأي الأميركي ضرورة أن تكون هذه السياسة إحدى أهم السياسات الأميركية الخارجية وضمن أولويات استراتيجيتها ليس لهدف إنساني إنما لهدف السيطرة واستحواذ كل الملفات ضمن إدارتها المصلحية.. بالإضافة إلى العودة إلى اتفاق باريس لحماية المناخ، والبقاء في منظمة الصحة العالمية، وغيرها من الاتفاقات الدولية التي تنصّلت منها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
مع الأخذ بالعلم بأن انسحاب ترامب من تلك الاتفاقات الدولية يصبّ في المصلحة الأميركيّة وبالتالي في مصلحة الإدارة الجديدة كما سبق ونوّهت في إحدى مقالاتي بأن انسحاب ترامب من الاتفاقات الدولية كخطوة استباقية فما وراء الانسحاب تعنّت أميركي لعنجهية إمبراطوريته. فصناع القرار في أميركا ليسوا ببعيدين عن مجريات الساحة الدولية وليس تعنّت العظمة إنما عن دراية بما يحدث وأنّ المقبل لن يكون كما اليوم والحال يتغير فلا بدّ من الجلوس على طاولة جديدة ومفاوضين جدد وشروط جديدة أرادت أميركا بانسحابها ألا تكن مكبّلة بالرغم من أنّها لم تتأثر بتلك «الأصفاد». إنما الزمان تغير وحين كانت تلف وتدور حول القانون الدولي كانت الراعية للمجتمع الدولي، لكن اليوم هناك قوى صاعدة وقوى منافسة فلا بدّ من الاستعداد للمرحلة الجديدة التي بدأت ترتسم ملامحها.
أما عن دور أميركا القيادي والعالمي فتؤكد تصريحات فريق بايدن بأنه «عندما لا تشارك الولايات المتحدة لا تقود»، وبالتالي ما يثير الشكوك الأميركية هو أنها باتت بين خيارين إما أن تحاول بعض البلدان الأخرى أخذ مكانتها والقيادة بطريقة لا تخدم مصالحها، أو أن يحدث فراغ ولا يقود العالم أي دولة، وكلا الخيارين لا يخدمان المصلحة الأميركية وفي حال تشكل نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية فهو سيناريو تخشى الولايات المتحدة الوصول إليه لكونه سيكون حاجزاً أمام غطرستها ومانعاً لتحقيق أهدافها المصلحية حيث يصبح هناك مَن يشاركها بالقرار الدولي وهو ما لا تريد الدولة العميقة الوصول إليه..
في المقابل يعتبر تيار العولمة والانخراط الأميركي الواسع في المنظومة الدولية، مؤمناً بأن على القيادة الأميركية بناء جبهة موحّدة بقيادتها لمواجهة التهديدات، التي تشكلها روسيا والصين وإيران.. ولبناء تلك الجبهة ستضطر الولايات المتحدة لإعادة بناء التحالفات لمعالجة «الركود الديمقراطي»، الذي تسبب به ترامب، وهو ما سمح وفق الزعم الأميركي بتفوق روسيا والصين عن طريق استغلال الصعوبات، التي تواجهها.
وبالتالي فإن إدارة بايدن ستجد نفسها أمام خيار إدارة العلاقات المعقّدة مع الصين، حيث سيواصل فريق بايدن بقيادة بلينكن المسير على نهج سياسة ترامب المتشددة تجاه الصين، باعتبارها المنافس الرئيس في العالم في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وسيميل إلى تقديم تنازلات في مجال التجارة، كما سيسعى إلى حماية الملكية الفكرية للشركات الأميركيّة التي تعمل هناك.
لكن ما سيتغير بين الإدارتين أن إدارة بايدن ستركز على إقناع الدول الأوروبية والآسيوية الحليفة لدعمها في هذا المسعى بدلاً من القيام بواجبات أحادية الجانب، وكآلية عملية لهذا التوجه فإن إدارة بايدن ستسعى للعودة إلى تفعيل اتفاقية الشراكة التجارية في دول المحيط الهادي، التي انسحب منها ترامب والتي تمثل 40% من التجارة العالمية، بحيث تصبح موازية للقوة الاقتصادية الصينية. وفي الوقت نفسه، ستقوم بإدارة الحرب التجارية التي بدأها ترامب، والتفاوض مع القيادة الصينية حول التعاون في مجال حماية المناخ، ومكافحة فيروس كوفيد-19، مع التأكيد على الموقف الأميركي من معضلة تايوان وأزمة الحقوق المائية ببحر الصين الجنوبي.
أما في مواجهة ما تسمّيه بالخطر الروسي فستحاول تبني سياسة مزدوجة تجاه روسيا تقوم على اعتبارها شريكاً وخصماً في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، تدعم سياسة العقوبات المناهضة لروسيا منذ عام 2014؛ في الوقت نفسه تعلن تمديد اتفاقية «ستارت-3» وتطالب بدعمها لاستئناف المحادثات مع إيران بخصوص اتفاق نووي جديد.. ومن دون أن تنسى بأن أي مواجهة جيوسياسية مع روسيا ستكون محفوفة بالمخاطر.
أما ما يتعلق بملف «الشرق الأوسط» فهو «إبقاء على ما سبق» ما يعني أن لا جديد فيه حيث ستبقى السفارة الأميركية في القدس، وستواصل تطبيق سيناريو التطبيع.. حتى لو تكرر التأكيد على أن التسوية الوحيدة القابلة للاستمرار في ذلك النزاع هي «حل الدولتين»؛ لكن هناك شكوك ضمن الإدارة الأميركية نفسها من إمكانية تحقيق هذا الحل على المدى القصير..
أما المهمة الأميركية الرئيسة في الشرق الأوسط فتتمثل بإقناع إيران بوقف تخصيب اليورانيوم وإغلاق المنشآت النووية وإعادة التفاوض حول الملف النووي الإيراني وهو ما لن ترضى به إيران إلا إذا كانت العودة الأميركية إلى الاتفاق نفسه..
بالتالي فمن المرجّح أن تفشل محاولات الإدارة الأميركية الجديدة في إعادة العالم إلى حقبة «ما قبل ترامب» العولمية..
في المحصلة تتغير الإدارات الأميركية إنما تبقى استراتيجية الدولة العميقة هي الراسخة في السيطرة على العالم إنما باتت هذه الاستراتيجية مشكوكاً بأمرها بل وبعيدة المنال وسط ما عانته وتعانيه الولايات المتحدة من أزمات داخلية تنبئ ببدء سقوط إمبراطوريتها الداخلية والخارجية..