أولويات الإدارة الأميركيّة
سعادة مصطفى أرشيد*
لا يزال فايروس كوفيد 19 السريع التطوّر، يبدي القدرة على أنه تجاوز طبيعته كوباء يهدّد صحة الإنسان وحياته، وإنما أصبح لاعباً سياسياً، وعنصراً من عناصر التأثير في مجالات الاقتصاد والمجتمع والتعليم، وقد كان صاحب دور رئيس ومهمّ في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وساهم في إنجاح جو بايدن أمام ترامب، الذي استخفّ بالفايروس في البداية، ثم فشل في اجتراح وتنفيذ سياسات للتعامل معه والحدّ من أخطاره المتعددة التي تتجاوز الصحة، وفي تصريح مثير لوزير الدفاع الأميركي الجديد لويد أوستن، اعتبر فيه أنّ من أولويات عمل وزارته، العمل على مكافحة الوباء، الذي بات من مهدّدات الأمن القومي الأميركي، وكاشفاً عورات النظام الزاهي المنظر، فقد كان أشبه بعاصفة تسونامي غير متوقعة، أزالت المساحيق عن الشكل الحقيقي للنظام الرأسمالي العنصري القبيح.
يلي الملفات الداخلية على أجندة بايدن، ملف الصين وبحرها الجنوبي والشرقي، حيث للصين منازعات جغرافية مع أكثر من دولة حليفة لواشنطن، وهناك تنتشر الأساطيل الأميركية، حيث يمكن محاصرة ذلك التنين الصاعد والسريع النمو، والذي يمثل التهديد الأخطر للتفوّق الأميركي العالمي، في أيام بايدن الأولى في البيت الأبيض، أطلق تحذيرات واضحة للصين من أية نيات توسعية، وأكد على دعم حلفائه، الذين يتهدّدهم التنامي الصيني والمطالبات الصينيّة، وعلى رأسهم اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين، والقائمة تطول، ولكن الصين ردّت على تلك التحذيرات بالبرود الشرقي المعروف، مؤكدة أنّ مسألة احتواء الصين ما هي إلا أوهام وفي هذا الملف لا تبتعد الإدارة الحالية كثيراً عن الإدارة الراحلة في مقاربتها.
في هذا الشرق، هناك ملفان تعتبرهما إدارة بايدن في قائمة أولوياتها، وهما ملفا اليمن وإيران، وللإدارة الأميركية مقاربات مختلفة عن سابقتها في هذين الملفين، فحرب اليمن، لم تعد تحتمل نتيجة عدم تحقيقها لأيّ من أهدافها ولا يبدو أنها ستفعل إلا على تحقيق عكس تلك الأهداف وعلى رأسها تعزيز التمركز الإيراني في جنوب غرب جزيرة العرب، وفي موقع مسيطر على مضيق باب المندب، ولم يبق من شيء تفعله القوات السعودية وحلفاؤها إلا القتل والهدم والأذى، مما جعل أكلافها الإنسانية والأخلاقية عالية من دون مقابل استراتيجي يستحق كلفة كهذه، وفوق ذلك فإنّ من أشعل نارها (تحالف محمد بن زايد ومحمد بن سلمان) لا يحظى بالاحترام والتقدير لدى الإدارة الجديدة، وقد صدر عن واشنطن ما يفيد بأنها تراجع قرار الإدارة السابقة الذي أدرج الحوثيين وإطارهم السياسي (جماعة أنصار الله) على قوائم الإرهاب.
إيران بدورها، تبدي نشاطاً ملحوظاً، وذلك عبر السفر الدائم لوزير خارجيتها وزياراته للعواصم المؤثرة، كما في مناوراتها العسكرية الواسعة، واستعراضها لقوتها في البر والبحر والجو وفي مجال الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، وفي كشوفها المتلاحقة عن قدرات صناعاتها الحربية برغم الحصار الذي تعانيه والضائقة الاقتصادية الخانقة، وهي تنتظر أن تقوم واشنطن بالمبادرة، لإحياء الاتفاق النووي الذي سبق للرئيس بايدن أن بذل جهداً لإنجازه، عندما كان نائباً للرئيس الأسبق أوباما.
وقد ظهرت الاثنين الماضي أولى البوادر العملية للاستجابة الأميركية، وذلك عبر تصريحات وزير الخارجية بلينكين لـ «أن بي سي» بأنّ بلاده مستعدة للعودة للاتفاق إذا كانت إيران جاهزة لذلك، وحذر بأنّ إيران قد أصبحت على مسافة قريبة جداً من القدرة على صناعة مكونات مهمة تمنحها القدرة على إنتاج سلاح نووي، والحؤول دون ذلك قضية من قضايا الأمن القومي الأميركي، لكن شيطان التفاصيل الأميركية، سيحاول ولا بدّ فرض شروط إضافية، ربما أهمّها، أن تقوم إيران بتسليم اليورانيوم الذي خصّبته إبان توقف العمل بالاتفاق لوكالة الطاقة الذرية، وفي جعبة شيطان التفاصيل، ما تطالب به فرنسا من ضمّ دول خليجية للاتفاق، ومنها أيضاً سعي (إسرائيل) لأن تكون جزءاً من الاتفاق، إضافة إلى ما يتردّد على ألسنة سياسيّيها وأمنيّيها من شروط، لن تكون إيران بوارد حتى نقاشها، ومنها انسحاب إيران من سورية والعراق واليمن، ونزع سلاح حزب الله، وتفكيك المنظومات الصاروخية الإيرانية، وتلك مسائل لم يستطع العالم أجمع أن يحققها طيلة أربعة عقود من الحروب والحصار والعقوبات، لكن عملية عضّ الأصابع بين طهران وواشنطن لا بدّ لها أن تصل إلى نهايتها، فلكلّ منهما الرغبة والمصلحة ذاتهما في الوصول إلى اتفاق.
أما باقي الملفات في شرقنا، فلا تبدي الإدارة الجديدة اهتماماً عالياً بها، ولا تدرجها في قائمة أولوياتها، فهي قد أصبحت أزمات نمطية، حيث تدير كلّ أزمة نفسها بنفسها، وهي لا تحمل صفة الاستعجال، ولا ترتفع حرارتها بما يشكل خطراً، ومنها ما يجري في العراق وسورية، حيث لا يفعل الأميركي أكثر من حماية الأكراد (قسد) عبر 2500 عسكري وهي سياسة أميركية قديمة ببيع الأوهام عبر استعمال الأكراد سريعي الاستجابة، والذين طالما خرجوا خاسرين، فلطالما استمرأوا اللعبة حتى ولو على حساب دمائهم. أما لبنان فغارق في فساده وقضايا حاكم مصرفه المركزي، وأزمة تشكيل الحكومة، وكذلك في الملف الفلسطيني، فالأزمة تدير نفسها بانتظار المرحلة الأولى من ظهور معالم الرؤية، أيّ انتخابات الكنيست في آذار المقبل، فيما يقطع الفلسطيني الوقت في مشاريع انتخابية وحوارات وطنية، يُفترض أنها ستعيد بناء النظام السياسي وتعيد الوحدة لما تبقى من فلسطين، المشاريع التي جرّبها الفلسطيني مراراً، والتي تنطلق بتفاؤل وحميمية بين المتخاصمين الفلسطينيين، ولكنها غالباً ما تنتهي بنتائج لا تتفق مع التفاؤل، في حين لن تقدّم الإدارة الأميركية الجديدة في المنظور أكثر من بعض الأموال وإعادة تفعيل وكالة التنمية الأميركية (U. S. Aid)، فتح مكتب أو قنصلية، مبعوث زائر لرام الله، ووفد يحلّ ضيفاً في واشنطن، ولكنها قد تقدّم بعض الدعم اللفظي الذي قد يبالغ في تقديره الفلسطيني الرسمي، كإدانة إنشاء بؤرة استيطانية هنا، أو استشهاد مدني فلسطيني على حاجز هناك، بادعاء محاولة القيام بعملية طعن، انه البقاء في المربع ذاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة.