متى يُقرّ بايدن أنه أمام إيران وليس أمام مشيخة أو جمهوريّة موز !
د. عدنان منصور _
من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرؤساء الأميركيون حيال الثورة الإيرانيّة، أنهم ومنذ عهد الرئيس كارتر عام 1979 وحتى نهاية ولاية ترامب، أرادوا أن يتعاطوا مع القيادة والدولة الإيرانية، بأسلوب ومفهوم ونهج سبق لهم أن استخدموه وهم يتعاملون مع أنظمة دكتاتورية وأنظمة ديمقراطية صورية، ومع مشيخات هزيلة، وجمهوريات موز أنشأوها وأداروها على طريقتهم لتكون في خدمة مصالحهم، فنصّبوا حكومات وفرضوا زعامات وهميّة على الشعوب، ما كانوا يوماً إلا دمى في خدمة أسيادهم وحماتهم ورعاتهم. يؤمَرون وينفذون، يُملى عليهم ويُطيعون…
استناداً الى هذه السياسة التي سلكتها الإدارة الأميركيّة على مدى عقود، ظنّ رؤساء الولايات المتحدة الأميركيون، وبعد قيام الثورة الإيرانيّة، أنهم يستطيعون ترويض إيران، وجرّ ثورتها وقادتها الى مواقع النفوذ الأميركي، أكان ذلك بالترغيب والتهويل، أم بالضغوط والوعيد، أم بالحصار والعقوبات والترهيب.
لقد غاب عن بصيرة الإدارة الأميركيّة وسياسيّيها، أنّ إيران ليست كما كانت في عهد القاجار، ولا في عهد الأسرة البهلوية، لتديرها وتوجّهها مثل ما كانت تهيمن عليها القوى الكبرى مثل بريطانيا وروسيا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ودخول الولايات المتحدة في ما بعد على الخط أثناء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الحكم البهلوي.
واشنطن وحلفاؤها يواجهون اليوم دولة قوية، متماسكة، بأيديولوجية تختلف جذرياً عن أنماط سياسات الأنظمة والحكومات العميلة السابقة التي سادت في إيران على مدى قرون.
هنا تكمن مشكلة الولايات المتحدة ومعها القوى الاستعمارية الدولية التي مارست نفوذها وسلطتها على إيران في يوم من الأيام، كبريطانيا وروسيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وأميركا وغيرها من الدول.
لم تقتنع واشنطن حتى اللحظة أنها أمام دولة تختلف جذرياً عن سابقاتها، تستنهض تاريخها العريق وحضارتها الباهرة، وفكرها وثقافتها وإرثها الغني وعقيدتها ودورها وإمكاناتها الهائلة لتكون في خدمة شعبها وأمتها، وفي خدمة حركة التطور الإنساني.
كان على واشنطن وحلفائها، أن يقرّوا بأنهم أمام دولة تمتلك كلّ مقوّمات القوة والصمود، وأمام قيادة وعقيدة ونهج وسياسة لا تقبل بأيّ صورة من الصور، العودة الى ماضي الفلك الغربي، والدخول في دائرة النفوذ الأجنبي، وكان عليها أيضاً أن لا تتجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ، وعناصر القوة وتأثيرها على الأرض، ودور طهران الفاعل في محيطها، وداخل منطقة الشرق الأوسط. إذ إنّ مقوّمات الدولة الإيرانية في مجالات عديدة، طرحت نفسها على ساحة المنطقة، وبكلّ قوّة على مدى سنوات من عمر ثورتها، لتقول لكلّ متربّص بها، إنها تتعاطى معه بمبدأ الندّ للندّ، وإنها ليست كالدويلات المصطنعة، والمحميات المنقرضة، والمشيخات الهشّة التي لم تستطع يوماً، أو تجرؤ على الخروج من تحت عباءته!
إيران تطلّ على العالم، وتتعاطى معه بلغة الواثق من نفسه. لِمَ لا؟ وهي التي تمتلك مقوّمات القوة، حيث تمتدّ على مساحة جغرافية تبلغ 1648000 كلم2، تفوق مساحة فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا مجتمعة، وبطاقة بشرية تصل الى 85 مليون نسمة، مع كلّ ما يتوفر لها، وتقوم به وتحققه من تقدّم علمي وتكنولوجي، وبرامج بحثيّة متنامية متطوّرة في مختلف الميادين العلمية والصناعية، والنووية السلمية والبرامج العسكرية والفضائية. وأيضاً بما تمثله من مركز ثقل جيو سياسي استراتيجي في وسط وغربي آسيا، وتمتلكه من جيش كبير، وقوة عسكرية ضاربة لا يُستهان بها، جعلت إيران في المرتبة الرابعة عشرة عالمياً وفق التصنيف السنوي لموقع Global fire power، بالإضافة الى ثروات هائلة من مخزون النفط والغاز (الدولة الرابعة في العالم في احتياط النفط، والثانية في احتياط الغاز)، واحتوائها على ثروات معدنية كبيرة من الذهب واليورانيوم والحديد والنحاس والفحم وغيرها، حيث قدّرت الاحتياطات المعدنية بـ 57 مليار طن، ونمو اقتصادي رغم الحصار والعقوبات الشرسة الأحادية الجانب، والقرارات الأمميّة القاسية، وشحّ الصادرات النفطية، والبتروكيميائيّة، ليصبح اقتصاد إيران ثالث أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، وفي المرتبة الثامنة والعشرين في العالم من حيث الناتج القومي الإجمالي، والسابع عشر عند تعادل القوة الشرائية مع الدولار (PPP)، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي للعام 2020، رغم خسارة خزينتها عشرات المليارات من الدولارات بسبب العقوبات القاسية المفروضة عليها.
كان على واشنطن وحلفائها أيضاً، أن تتخلى عن فكرة الإطاحة بالثورة والنظام، بعد أن اختبرت جيداً مدى التماسك الوطني والعقائدي لدى الشعب الإيراني بأطيافه كافة، ما جعل النظام وقيادته كهرم صلب يتحرك بثبات من القاعدة الى القمة، من دون أن يهتز، وهو يتعامل مع مجريات الأحداث وتطوّراتها في المنطقة والعالم، رغم ما شهدته المنطقة من قوى إرهابية، وضربها لأمن الدول فيها، حيث كانت إيران، أبرز المتصدّين لقوى الإرهاب، والدولة الأكثر أمناً واستقراراً في المنطقة. استقرار ينبع من الداخل الإيراني، وليس استقراراً عن طريق القوة توفره دول الخارج لأتباعها.
لكن السؤال الذي يُطرح اليوم: هل بمقدور الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن خلال ولايته، رفع العقوبات عن إيران، وتجاوز ضغوط «إسرائيل» ولوبياتها، ورغبات دول في المنطقة يُعتمد عليها، والرجوع عن قرارات ترامب ذات الصلة بإيران وفلسطين وسورية، للسير الى الأمام في مدّ الجسور مع طهران، ورفع العقوبات عنها، بعد قطيعة معها ستتجاوز بعد أيام الـ 42 عاماً؟!
هل باستطاعة بايدن تجاوز نفوذ اللوبي اليهودي المتشدّد داخل الولايات المتحدة، والمؤسسات العميقة المتجذرة داخل الدولة، والمؤيدة الى حدّ بعيد في سلوكها ونهجها ودعمها المطلق من دون تحفظ لـ «إسرائيل»، وبالذات داخل الكونغرس، حيث الغالبية فيه تفرض قراراتها بغية دعم «إسرائيل» وتلبية مطالبها الهادفة الى الاستمرار في تطويق وحصار إيران، وفرض المزيد من العقوبات والضغوط عليها؟!
هل سيخفف بايدن من اندفاعه باتجاه «إسرائيل» ودعمه الكامل لها من دون تحفظ، وهو الذي أعرب في اكثر من مناسبة، عن حبّه وعشقه الكبير للصهيونية ولـ «إسرائيل»، وهو القائل إنه «حان الوقت لإيقاف من يطلبون منا الاعتذار عن دعم «إسرائيل»، فلن يكون هناك أيّ اعتذار، لا شيء… وإذا لم توجد «إسرائيل»، لكان على الولايات المتحدة أن توجد «إسرائيل»»… وإنه «ليس من الضروري ان أكون يهودياً، كي أكون صهيونياً، لأني كذلك صهيونيّ… وما ينبغي على الناس تفهّمه وأن يكونوا واضحين وضوح الشمس، هو أنّ «إسرائيل» تعدّ القوة الأكبر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تخيّلوا ظروفنا في العالم من دون وجود «إسرائيل»»؟!
فـ بأيّ منطق وبأيّ نهج وسلوك وسياسة سيتعاطى بايدن مع إيران، في ظلّ التأثير والضغط الصهيوني على القرار الأميركي الذي لم يتراجع يوماً، وبقي أسيراً في يد اللوبيات اليهودية، وسيفاً مسلطاً على الرؤساء الأميركيين، حيث لم يستطع أيّ منهم الإفلات منه، أو تحجيمه، أو شلّ قدراته؟
الرئيس بايدن اليوم يجد نفسه أمام الاستحقاق تجاه إيران، وفلسطين، وسورية، والعراق، واليمن، والمنطقة كلها. فإذا كان يريد فعلاً لا قولاً، أن يطلّ بوجه جديد، وحلة جميلة على دول المنطقة وبالذات على إيران، من خلال سياسة بناءة غير منحازة، وغير متهوّرة كسياسات أسلافه، فالخطوة تبدأ من واشنطن وليس من طهران.
فهل يخطو بايدن خطوته لتصحيح السياسة المتطرفة لبلاده، والسلوك الاستبداديّ الذي مارسته واشنطن طيلة عقود مع حليفتها «إسرائيل»، بحقّ شعوب المنطقة، حيث لم تجلب السياسة الأميركية لها سوى الفوضى والحروب، وعدم الاستقرار والإرهاب، والدمار، والتهجير، وكراهية شعوب المنطقة الشديدة تجاه الولايات المتحدة وأتباعها?
إنها فرصة جو بايدن، فهل يمتلك الشجاعة ويجرؤ ليخطو خطوته التاريخية ويتقدّم باتجاه طهران، أم انه أعجز من أن يخطو خطوته بمعزل عن الغطاء اليهودي، الذي لن يوفره له الكيان الصهيوني بكلّ تأكيد؟!
إنّ «صهيونية» بايدن التي يفتخر بها، ستكون على المحكّ، وهو يتعاطى مع الملفات الساخنة للمنطقة. فمن الذي سيكون عنده فوق كل اعتبار، مصالح أميركا أم مصالح «إسرائيل»؟!
الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، فلننتظر، وإنْ كانت الوقائع والحقائق تشير الى أنّ سياسات بايدن حيال المنطقة، لن تتغيّر جذرياً عن سابقاتها، لتبقى استراتيجية واشنطن تجاهها وتجاه إيران على ما هي عليه وتبقى المواجهة، وإنْ اختلف الأسلوب والتكتيك!
إنّ الخلاف الجوهري بين طهران وواشنطن، أكبر بكثير من الملف النووي الإيراني، ليشمل ملفات عديدة ترتبط بالتحالفات، والأمن، والبرامج العسكرية والأنظمة الصاروخية الإيرانية، والتمركز العسكري للدول الكبرى، وتموضعها في المنطقة، وضمان الاستقرار للكيان الإسرائيلي، وإنهاء حالة العداء ضدّه، ونزع سلاح المقاومة وفكّ الارتباط معها، والإقرار بمواقع النفوذ الأميركي، واستغلال ثروات الطاقة، وموقف إيران الرافض بالمطلق لوجود الكيان «الإسرائيلي»، ودعمها للأنظمة الوطنية المعارضة للولايات المتحدة، و»تدخلاتها» على حدّ زعم واشنطن وحلفائها في شؤون دول المنطقة، الى ما هنالك من ملفات ساخنة تريد الإدارة الأميركية طرحها والخوض فيها.
لكن رغم كلّ شيء، سيجد الرئيس بايدن نفسه، أمام دولة قادرة، واثقة من نفسها، تعرف ما لها وما عليها. فهل سيعترف بايدن أنه بعد 42 عاماً من سياسة شرسة، وعقوبات قاسية، فرضتها واشنطن على إيران، لم تفلح طيلة العقود الأربعة على ليّ الذراع الإيرانية، ولن تفلح مستقبلاً لجرّ القيادة الإيرانية الى مفاوضات حول الملف النووي وملفات أخرى أساسية على الطريقة الأميركية، تريد منها واشنطن وحلفاؤها تكبيل وتحجيم وإكراه إيران، وحملها على الاستسلام، ومن ثم فرض الأمر الواقع عليها!
آن الأوان لتتخلى الولايات المتحدة عن عقوباتها وممارساتها اللاإنسانية، وعن سياساتها المعادية لإيران، والإقرار أنها أمام دولة كبرى عصيّة على قوى الهيمنة والاستبداد، وليست أمام مشيخة صنيعة، أو جمهورية موز!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق