فعل العقيدة العظيمة في الأمة العظيمة
} الأمين سمير رفعت
نشرت «البناء» في عددها الصادر يوم الأربعاء تاريخ 16 كانون الأول 2020 خبراً حرّض لديّ الذاكرة القديمة عن حدثَين لافتَين، الخبر محاضرة عن العلّامة أنيس صايغ الرفيق والصديق الراحل، ألقاها الدكتور الصديق جورج جبور المساهم في الموسوعة الفلسطينية، حين غادرت دمشق مُكرهاً إثر ملاحقة مذكرة التوقيف لي في ثمانينات القرن الماضي، كانت وجهتي عمّان، وتركت في دمشق منزلاً مؤلفاً من طابقَين في البناء الذي كنا نملكه في شارع أبو رمانة بدمشق، وسيارة خاصة بي… المنزل صودر في العام 1968 وبيع لآخرين بحجة هروبي من دمشق بسبب انتمائي الحزبي، أما السيارة فقد قام قريب لي ببيعها، وأرسل ثمنها إلى لبنان حيث قمت بشراء منزل صغير في شارع الحمرا بثمن السيارة… وحين عدت إلى بيروت مطروداً من عمّان إثر أحداث أيلول الأسود 1970، عرضت منزل شارع الحمرا للإيجار، فجاء شاب يطلب استئجاره، سألته هل سيقطن به مع عائلته؟ قال لا: سأقطن فيه مع صديق لي، وسيأتي بعد قليل ليعاين المنزل، دقائق ووصل صديقه الذي لم يعرّفني على اسمه، لكنني عرفته فوراً وبقيت متجاهلاً ذلك… دخل هذا الشخص معلناً موافقته على إتمام عقد الإيجار، قلت له إنّ الإيجار هو مبلغ كذا، استغرب لأني كنت قد عرضت مبلغاً أكبر، ثمّ تكفّلت بالخدمات الإضافية التي تترتب على المنزل، استغرب الشخص معاملتي، وهو لا يعرفني من قبل، ثمّ سألني بالحرف الواحد: هل أنت سوري قومي اجتماعي؟ استغربت السؤال وأجبته بالإيجاب مستغرباً معرفته بهويتي الحزبية، إلى أن قال: هذه الأخلاق التي تعاملني بها ونحن لا نعرف بعضنا لا تنمّ إلا عن قومي اجتماعي، حينها عرّفته على نفسي وأعلمته أني عرفته منذ دخوله البيت، إنّه الدكتور الرفيق أنيس صايغ المدير العام لمركز الأبحاث الفلسطينية الذي يبعد عن منزلي بضعة أمتار فقط.
حينها شرح لي الدكتور أنيس سبب استئجاره لمنزلي الذي يبعد عن مكتبه وعن بيته شارعاً واحداً. فقد تعرّض الدكتور صايغ لمحاولة اغتيال عبر رسالة ملغومة أرسلت له، وأدى انفجارها إلى فقدانه إحدى عينَيه وبعض أصابع يده، كما حدث مع المناضل بسام أبو شريف القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذ كان العدو اليهودي يتبع تلك الطرق في الاغتيالات.
هنا شرح لي الدكتور أنيس صايغ أنه يريد منزلاً قريبا ًمن بيته ومكان عمله، وأن لا يكون معروفاً لأحد كي يمضي فيه ساعات النهار، وهكذا كان، وتوطّدت صداقة متينة بيننا أدّت إلى أن نلتقي صباحاً على فنجان قهوة، حيث كان يعقد اجتماع التحرير في مركز الأبحاث.
وفي أحد الأيام، دخلت مكتبي في إدارة تحرير مجلة «الديار» لتبلغني سكرتيرتي أنّ الدكتور أنيس قد اتصل سائلاً عنك، أمسكت الهاتف واتصلت بالمركز، أجابني عامل الهاتف أنه سأل عني قبل دقائق، وبلحظة سمعته يولول على الهاتف بعد صوت انفجار شديد. أغلقت السماعة واتجهت فوراً إلى مركز الأبحاث الذي كان قريباً من مكتبي، رأيت الجميع أمام المبنى، ورأيت الدكتور أنيس يلوّح لي صارخاً مخاطباً: حظّك كبير.. حظّك كبير.. تقدّمت منه لأعرف ما حدث، فقال لي إنّ صواريخ قد رُكّبت على سيارة مغطاة بشادر أُطلقت باتجاه المبنى الذي فيه مركز الأبحاث وأدّت إلى دمار كبير وخسائر مادية. أما قوله لي بأنّي محظوظ فلأنه حدثني ليطلب إليّ أن أحضر اجتماع التحرير وأحتسي معهم القهوة الصباحية، ولو أنه وجدني في تلك اللحظة فسأكون أمام المبنى لحظة إطلاق الصاروخ.
علاقتي الحميمة مع الدكتور الصديق أنيس صايغ استمرت سنوات إلى أن توفّاه الله.
الحدث الثاني الذي حرّضه في الذاكرة خبر «البناء» عن محاضرة للدكتور جورج جبور، أنني دعوت الدكتور جبور مرة للمشاركة في ندوة فكرية سياسية أقامها الحزب السوري القومي الاجتماعي في بيروت، اعتقد أنّ موضوعها كان سايكس – بيكو، وضمّت عدة مثقفين وسياسيين من كيانات الأمة السورية.
بعد حضور الندوة ومشاركته بها وبصورة شخصية ونتيجة الصداقة التي تربطني بالدكتور جبور، أطلعني على التقرير الذي كتبه عن الندوة، والذي سيرفعه إلى السيد الرئيس حافظ الأسد، كونه كان يشغل منصب مدير الشؤون السياسية في القصر الجمهوري، وقد أورد في التقرير صفة للقوميين الاجتماعيين الذين يخاطبون بعضهم مع عائلاتهم قبل النوم بكلمة تحيا سورية، وقد التقط هذه الفكرة من ليلة قضاها في منزلي وسمعني أخاطب زوجتي بذلك.. بعد هذه الحادثة، وخلال لقائي بالسيد الرئيس حافظ الأسد، سألني بشكل مباشر: هل صحيح أنك تقول لزوجتك قبل النوم تحيا سورية بدلاً من تصبحين على خير؟ أجبته أنّ من نقل لك هذه المعلومة – وأنا أعرفه طبعاً – أعطاك نصف الحقيقة، فأنا صباحاً أيضاً أصبّحها بكلمة تحيا سورية.
ومن تداعيات الذاكرة أنني في ثمانينات القرن الماضي انتخبت عضواً في المجلس الأعلى للمرة الثانية، وكنت تابعاً تنظيمياً لمديرية رأس بيروت الثانية، وكان الرفيق غسان شمس الدين مدرّباً للمديرية يضع نوبات الحراسة على منفذية بيروت خلف فندق البريستول لأنها ضمن نطاق مديريتنا، وكنت أصرّ على أن يضع اسمي في عداد الحرس كأيّ رفيق آخر، وبالصدفة كان شتاء وكانت حراستي من الثانية للرابعة بعد منتصف الليل، وصودف مرور حضرة رئيس الحزب الأمين إنعام رعد يرافقه عميد الدفاع محمد سليم، فتوقف فجأة حين رآني وسألني إذا كنت بحاجة لأية مساعدة، فقد كان يعرف أن بيتي يبعد عن مبنى المنفذية عدة أمتار، وحين أجبته أني أقوم بحراسة المنفذية أبدى استغراباً شديداً، وتوجه لعميد الدفاع بسؤاله عن ذلك، فأجابه أنّ الأمين سمير لا يقبل إلا أن يقوم بواجبه في الحراسة كأي رفيق آخر في مديريته..
وصودف أنه في لقاء لي مع السيد الرئيس حافظ الأسد، سألني عن حراستي لمبنى حزبي في بيروت وهو يعرف أني عضو في المجلس الأعلى، مُبدياً استغرابه لتصرفي، حين ذلك أوردت له حادثة حضرة الزعيم مع الرفقاء الذين قاموا بحراسته، واستدعى المسؤول عن ذلك ليتعرّف على الرفقاء الحرس، وطلب من الآمر بأن يضع اسمه بين المولجين بالحراسة، عندها استغرب آمر الحرس قائلاً للزعيم: نحن نقوم بحراستك، أما أنت فستحرس مَن؟ أجابه الزعيم: سأتجرّد من كوني الزعيم وأعود أنطون سعاده وأحرس الزعيم… بعد إيراد هذه الحادثة، رأيت في عينَي السيد الرئيس الأسد استغراباً كبيراً، وعلّق على الموضوع بأن قال لي: أبهذا الرقيّ تتعاملون مع الحراسة؟ وأكملت حديثي مع الرئيس الأسد شارحاً بأني حين أقوم بالحراسة فأنا أحرس عقيدتي وحزبي ونهضتي المتمثلة بهذا المبنى، ولا أقوم بحراسة أشخاص قد أكون حزبياً أعلى منهم تنظيمياً.
حاشية عزّ
لحظة استعادة هذه الذكريات أُفاجَأ بالطفل الجنوبي البطل حسين الشرتوني حين أرعبت دجاجته الكيان اليهودي المصطنع، وتداعت الذاكرة إلى الأمين حبيب الشرتوني حين قطع اليد اليهودية الممتدة إلى لبناننا من العنق… حسين الشرتوني – حبيب الشرتوني من أبناء هذه الأمة العظيمة التي تملك القوة والتي لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.. فالحسين لم يفرّط بدجاجته، والحبيب لم يفرّط بلبنانه.
سعاده قال لنا: إنّ بناء النفوس في النهضة القومية الاجتماعية ينقذ لبنان من ذلّ التلبنن الاستعماري الرجعي، ويقيم الحقيقة اللبنانية، ويزيل عن الأرزة الجليلة صبغة السخافة والانحطاط التي صبغتها بها فئات الاستسلام للأمر الواقع.